نور الشريف والتمثيل المسرحي.. لغة الشعور والصياغة العقلية للخيال

لم يكن الفنان الراحل نور الشريف ضيفا على المسرح، أو نجما سينمائيا يزوره من حين إلى آخر، فالمسرح كان بيته الأساسي الذي يستطيع أن يعود إليه في أي وقت، وكثيرا ما كان يعود كما تخبرنا قائمة أعماله المسرحية الطويلة التي تزخر بعروض كان بطلها الأساسي، هذه المسرحيات نقرأ عنها بدون أن نتمكن من مشاهدة أغلبها، ونجد أنها كانت تتنوع ما بين المسرح الشعري والعالمي المترجم، والمصري بنصوصه الفصيحة والعامية، ويعد المصور والمتاح منها قليلا للأسف.
وقد قام نور الشريف بإخراج بعضها بنفسه، فهو متخرج من قسم التمثيل والإخراج في معهد الفنون المسرحية عام 1967 وكان الأول على دفعته، وعمل معيدا لبعض الوقت حتى إنه كان من أساتذة الفنان الراحل أحمد زكي في عامه الدراسي الأول في المعهد، ورغم أنه لم يستمر في عمله الأكاديمي، وقرر أن يكون حرا في عالم الفن، ظل دائما «الأستاذ» داخل أكاديمية الفنون وخارجها، والمحاضر البارع في الندوات أو المحاضرات الحرة، ولم تفارقه هذه الأستاذية طوال حياته، فكان ينشر المعرفة بتلقائية، ويثير الرغبة في التعلم، بأسلوب يجمع بين جدية الأستاذ الصارم، وحساسية الفنان المرهف، ولم ينفصل عن المكان الذي تلقى فيه أول دروسه الفنية، فقدم مع فرقة أكاديمية الفنون مسرحية «كاليغولا» عام 1991 التي تعد من أهم أعماله، وأخرجها الدكتور سعد أردش، وفي الأدوار المساعدة نرى بعض أساتذة الأكاديمية الراحلين ومدرسي التمثيل في معهد الفنون المسرحية، وبعض الممثلين الذين كانوا طلابا في المعهد آنذاك، بالإضافة إلى طلبة معهد الباليه، الذين أدوا بعض الرقصات التعبيرية ذات الطابع النفسي، ومن أهم أعماله أيضا في المرحلة الأخيرة من مسيرته الفنية، مسرحية «لن تسقط القدس» التي عرضت على مسرح الجمهورية عام 2002 في أجواء حماسية لا مثيل لها، وسط مشاعر الجماهير الطاغية وموجات التصفيق الهادر، ولا نعلم هل تم تصوير هذه المسرحية أم لا، وإذا كان تم تصويرها فلماذا هي غير متاحة ولا يتم عرضها؟
كان نور الشريف قادرا على إدهاش المتفرج الذي يذهب إلى مسرحه وهو لا يتوقع أي مفاجأة، ويظن أنه يعرف نجمه المحبوب جيدا، فكم شاهد من أفلامه السينمائية ومسلسلاته التلفزيونية، وتعود على فنه وأسلوبه التمثيلي، لكنه كان يشعر فور ظهوره على المسرح بسطوة حضور مختلف، يحث على الانتباه والتركيز، من أجل إعادة اكتشاف هذا الفنان الذي يشيع تأثيره في جميع أرجاء المسرح، ويفرض الصمت والسكون على الجمهور، ويقوده إلى حسن الإنصات والتمعن في المشاهدة، ولم يكن يعتمد في ذلك على التخويف بالنظرات الحادة والصوت الرهيب، وإنما كان أشبه بناسك هادئ، لا يميل إلى القوة والمخاشنة في الأداء، ويحرص على البعد عن المبالغة واستعراض الإشارات والإيماءات وقدرات الإلقاء المفخم، وكان لا يهدر صوته وانفعاله، ويدخرهما للحظة المناسبة تماما، ولا يسرف في استخدام صوته تحديدا، حتى يظن المرء أن قدراته الصوتية لا تسمح له بالذهاب إلى أبعد من ذلك، ثم يندهش عندما يعلو الصوت مدويا بانفعالاته الحارقة، وتتناثر نبراته ألما، ويكون لها الوقع العظيم في نفس المتلقي، ولم يكن يعتمد في تجسيده للشخصية الخيالية على التخلص التام من نور الشريف وإيقاعه في الإلقاء، أو بعض الحركات الجسمانية التي تلازمه مثل حركة كفه اليمنى أثناء الكلام، وهذا أمر طبيعي في فن التمثيل، ونجده لدى سائر الممثلين، بمن فيهم الأكثر قدرة على التقمص والفرار من الذات وإلغائها بدرجة كبيرة، بل إنه يكون جيدا ونافعا في خلق الارتباط بين المشاهد وممثله المحبوب، ويساعده على تلقي الأنماط الدرامية المعقدة والشخصيات المختلفة والأفكار الغريبة من خلال الممثل الذي يألفه.
ونشعر بأن تركيز نور الشريف الأكبر كان دائما على نقل شعور الشخصية الدرامية إلى المتلقي، وأن تتحقق أعلى درجات الإقناع من خلال هذا الأمر، لا من خلال المحاكاة المظهرية، أو كيف تبدو الشخصية وكيف تتحرك وكيف تتكلم، المهم هو بماذا يشعر هذا البطل، سواء في قمة أزمته الانفعالية، أو في لحظات حياته العادية البسيطة، التي تمهد للأحداث الدرامية الكبرى، وكان يسخر طاقته الذهنية والنفسية من أجل تفسير مشاعر البطل ومواقفه تجاه الكون والموجودات، كما في مسرحية «كاليغولا» النص الذي كتبه ألبير كامو وترجمه رمسيس يونان، وكان على نور الشريف أن يحتمل في كل ليلة جنون هذا البطل ودماره النفسي، ودمويته البشعة وشطحاته الفكرية القاتلة، وأن يؤدي هذه القطعة المسرحية التي تتحرى الفلسفة بما فيها من عمق وتعقيد، وتعبير وإشارات وحوار يلقى، وحركة متوترة لا تهدأ تجوب المسرح الشاسع، والصوت الذي يجب أن يعلو في لحظات الغضب أو الفزع إلى درجات منهكة، وبشكل عام كان المسرحي نور الشريف يجيد لغة الشعور، ويعرف كيف يخاطب بها جمهوره، ويعتمد كممثل على هذا الشعور الدافع الذي يمكنه من خلق الاستجابة لكل إحساس بجسده وصوته وعينيه والتعبير من خلال الحركات الجسمانية، ويمكنه أيضا من ترك الانطباعات الحسية والحصول على الاستجابة الانفعالية من الجمهور، وكان يستسلم أحيانا إلى اللاوعي، ويجعل الجمهور يقع تحت تأثيره أيضا، في لحظات ينسى فيها نفسه ليلامس المنطقة الخطرة في فن التمثيل، ثم يعود منها سريعا إلى كامل الوعي والإدراك المحيط والممسك بكل ما حوله، ولا شك في أننا نتطلع دائما إلى عقل نور الشريف، ذلك العقل الواعي الذي يكون مسيطرا على كل شيء حين تتداعى المشاعر، وينظم فوضى الخيال ويعيد صياغته على أفضل ما يكون.
ومن أهم مسرحياته التي يمكن مشاهدتها، هي مسرحية «الأميرة والصعلوك» التي عرضت على خشبة المسرح القومي عام 2005 وقد اختار الفنان نور الشريف هذا النص للكاتب المصري ألفريد فرج، لكي يقوم بإخراجه ويؤدي بطولته، حيث يجسد شخصية «حسن النساخ» الذي ينسخ الكتب في زمن قديم ويبيعها بدراهم معدودة، حتى يمكن الناس من القراءة والمعرفة، وتطارده الشرطة التي تعتبر ذلك الفعل جريمة، ولأنه يرفض مغادرة القاهرة يتنكر في ثياب شحاذ، ويضيع وسط الناس مخفيا هويته الحقيقية، ثم تأتي الأميرة إلى السوق لكي تختار الصعلوك الأكثر بؤسا وتتزوجه نكاية في زوجها الذي طلقها وحطم كبرياءها، ويقع اختيارها على حسن، وتأمر حراسها بأن يقتادوه عنوة إلى القصر، لكي يتم الزواج حتى بدون أن تحصل على موافقته أو أن يبدي رأيه في هذا الأمر، لكنه يقع في غرامها عندما يقترب منها وينظر في عينيها ويراها بدون أن يكون خائفا منها، وفي ليلة الزفاف تتراجع الأميرة وترغب في العودة إلى زوجها الأول، وتساوم حسن على أن تتيح له الهرب من الشرطة بعد أن اكتشفت هويته الحقيقية، مقابل أن يطلقها ولا يلمسها كزوجة، لكنه يرفض الهرب، ويرضى بأن يضحي بحياته كلها في سبيل ليلة حب واحدة مع الأميرة التي صار عاشقا لها، ويحاورها بهدوء ويقنعها بأنها لا تحب زوجها الأول، وأن الأمر كله يتعلق بالكبرياء والرغبة في استعادة الماضي، وعندما تشعر بكلماته وتفهمها ويبدو أنها قد وقعت في غرامه أيضا، تتركه وتذهب إلى غرفتها من أجل أن تجهز نفسها له، وبعد طول الانتظار يفيق حسن وهو يُحاكم على جريمته، ويخبره الجميع بأن الأميرة التي يحبها ماتت منذ 200 سنة عندما أحرقت نفسها داخل قصر قايتباي في الروضة، حتى لا تقع أسيرة في أيدي العثمانيين وتصير جارية عندهم.
يبدو أن هذا النص كان قريبا إلى نفس الفنان نور الشريف، ويدل على ذلك اختياره له ورؤيته الإخراجية واندماجه العاطفي والنفسي مع شخصية البطل، فهو ابن القاهرة القديمة وتحديدا حي السيدة زينب، وينتمي وجدانيا وثقافيا إلى أجوائها التاريخية، وتكونت مخيلته وسط حكاياتها اللانهائية وسير الصوفية والدراويش الحاضرة في العرض المسرحي أيضا، ونشعر بأن في أعماقه ما يشترك مع جذور شخصية حسن النساخ، من ثقافة العقل والنفس والروح، والحرص على المعرفة والاطلاع، والأهم من كل ما سبق، وما نشعر بأنه يربطه حقا بشخصية حسن النساخ، هو الإيمان بالخيال، وقد عبّر نور الشريف من خلال لغة التمثيل ولغة الإخراج عن قراءته وأفكاره وتأملاته حول هذا النص المكتوب بلغة فصيحة هي أقرب إلى اللغة المحكية، التي لا تخلو من بعض التعبيرات العامية، وتظهر خبرة الفنان الذي مارس الفن المسرحي لسنوات طويلة، في حُسن التأدية وتحقيق الإمتاع عندما يكون وحده على خشبة المسرح، حيث لا يمل المرء من تدفقاته الفردية مهما طالت، حيث يكون غارقا في خياله مستمتعا به، وينقل إلينا هذه المتعة، وكذلك حواراته العاطفية مع الحبيبة التي تكون صامتة أغلب الوقت، ولا تنطق إلا بكلمات قليلة، وتوجه إليه الأسئلة التي يجيب عليها بعبارات طويلة.
وفي هذه المسرحية يتبدل أداء نور الشريف تماما عندما يقع في الحب، حيث نرى على وجهه ابتسامة العشق الدامعة، ونشعر بالاختلاف في مرونة الصوت وتبلور جرسه الهادئ، وجمال الإلقاء والتعبير عن الأحاسيس الكامنة في بعض مقاطع النص الجميلة، مثل كلامه مع الأميرة في ليلة الزفاف، وهو يعترف بحبه ويقول لها: «أميرتي، لقد قرأت وكتبت الكثير عن الحب، وعرفت الهوى وأطوار المحبين، لكن أنت، أنت أول حب لي، أنت أول من فتحت باب قلبي البارد بدفء رقتها» أو عندما يحاول أن يُفهمها ويضيء عقلها ويجعلها تدرك أن رغبة مطلقها الأمير في العودة إليها، لا ترجع إلى الحب، وأن ما يحركه ويحركها هو الكبرياء المصدوع والأمل في ترميمه، فيقول لها: «سيدتي، في مهنتي نسخت حكايات كثيرة عن الحب وجنونه، تعلمت منها أن الحب لا يتنفس في الحنق والغضب، الحب لا يصلح عذرا للغيرة الهوجاء، سيدتي، إنما نقرأ القصص ونكتب القصص لنتعلم من أحوال أهل الخيال، لنصلح أحوالنا نحن أهل الدنيا، فاعذريني إن قلت لك إن الأمير صقر يزيف لك الحب، ويزيف لنفسه الحب، وأنت تتوهمين حبه فتغفرين له ما لا يغتفر وهو الطلاق».
وما أجمل كلمات الكاتب ألفريد فرج التي يلقيها نور الشريف، بأداء يجعلنا نحس بمعنى وجوهر كل حرف من حروف إجابة حسن البليغة على الأميرة عندما تسأله ما هو الحب، فيقول: «المحب يرى الحبيب للمرة الأولى في كل مرة يراه فيها، ولو بعد ألف مرة، الحب هو اكتشاف الحبيب طول العمر وهو مغمض العينين، بدون أن يتمكن من حفظه أو قراءته، الحبيب لحبيبه لغز خاف وسر صعب، الحب هو تكرار السؤال ما هو الحب بلا جواب شاف» وفي نهاية المسرحية عندما يفقد حسن حلمه أو وهمه، ويخبرونه بالحقيقة التي لا يستطيع أن يتقبلها، في هذه اللحظة يكون على نور الشريف كممثل أن يواجه الجنون، وربما ذهب غيره من الممثلين إلى إظهار الفزع والتهويل والمبالغة في رد الفعل، لكننا نراه يُظهر القليل جدا من الغضب، والكثير من الحزن الثقيل في هدوء من أدرك مصيره، ولا ينفعل ويعلو صوته إلا مع آخر كلمة من كلمات النهاية، التي يلقيها بصوت يكاد يبتسم، بينما نرى الدموع في عينيه حين يقول: «أنا لا أصدق ما تقولون، لا أصدقكم، ومهما قلتم، ستجدونني في السوق أنتظرها مع نسمات الربيع، وحولها حرسها، والسقاؤون، والمبخرون، والمعطرون، وما إن تراني في ملابسي الرثة، أو الغالية، حتى تقول لي اتبعني يا حسن، فأتبعها إلى آخر الدنيا، إلى آخر الزمان».
القدس الغربي
التعليقات مغلقة.