إن شاء الله من فرنسا ما تجينا إلا فرير دمور المسخت الأرياح

118

عبد الله على إبراهيم

قرأت عن صدام وقع في صعيد مصر بين المسلمين والمسيحيين بعد نشر شاب قبطي للرسوم الفرنسية المسيئة لأفضل البشر. ووجدت في عدوى الرسوم الفرنسية لصعيد مصر بعض شرور العولمة ضربت النسيج الاجتماعي لمجتمع نمى أعرافاً في التعايش كانت موضوع مقالات نوهت فيها برحابتها وإنسانيتها قبل أكثر من عقد من الزمان. وسبقتها بالطبع شرور التطرف الإسلامي حتى لا ننسى. ووجدت نفسي أتذكر مثلاً سودانياً سمعته من المرحوم الطيب محمد الطيب قال: “إن شاء الله من الريف (مصر) ما يجينا إلا القماش”. ويعني أنه يكفينا القماش وارداً من مصر. وعملاً بالمثل قلت عن رسوم فرنسا: “إن شاء الله من فرنسا ما تجينا إلا فرير دمور المسخ الأرياح”. فإلى المقال:
في مناسبة عيد الأضحى نشرت جريدة “البديل” المصرية (8-12-2008) ملحقاً غاية في النفع والطرافة عن “الهوية من أسفل”. وهو وصف عالم الاجتماع الأمريكي ملقلم عبدو سيمون لمنزلة الهوية بين العامة وجدلها. وجاء وصفه هذا في كتابه ” في أي صورة ما شاء: الإسلام السياسي وممارسات البندر في السودان” (1994) الذي درس فيه ديناميكية الهوية السودانية بين غمار الناس في أحياء النازحين بمدن ولاية الخرطوم. وكشف عن خلطة للهويات الإثنية والثقافية بين معذبي الأرض هؤلاء لن تجد لها صدى في جدل صفوة الرأي والحكم. فهذه الصفوة تستوجب صفاء الهويات بلا عكر وتستنكر مزجها الذي يعد خيانة للجماعة. فسيمون يري أن الصفوة بهذا الفهم تطرح موضوع الهوية كمسألة قابلة للحل مثل مسألة حساب عصية. ولا يبدا بناء الوطن إلا بعد حلها حلاً جامعاً مانعاً. ولهذا فهم يرجعون إلى ماض سحيق كبعانخي واتفاقية البقط وما أدريك طلباً لهذا الحل الصواب مائة بالمائة. وهذا إبعاد في النجعة لا معنى له بينما الحل أقرب من حبل الوريد. وبالمقابل فالهوية بين معذبي الأرض الذين درسهم سيمون هي حالة “انبعاج” لا أول لها ولا أخر لا تعرف متى بدأت أو إلي أين تصير. ويتشكل الوطن في طياتها لا بمعزل عنها. وأهم تاريخ لها هو الحاضر في الرزق وكسب العيش.
تناولت “البديل” في تحريها الصحفي عدة مظاهر لهذه الهوية من أسفل. فحكت فيها عن مصريين عاديين، مصريين ومسيحيين، ائتلفوا اقتصاداً وصنائع لا تعكر صفو حياتهم أو رزقهم عكر تباين العقيدة واختلاف المشرب. فتركوا لله ل “يفصل بين أهل الكتاب فيما كانوا فيه يختلفون”. ولك أن تقارن بين هداوة البال التي اتسمت بها حياة من شملهم تحقيق “البديل” من مسيحيين ومسلمين وبين مظاهر الشقاق الصعب الذي يكتنف خصومات صفوية (أو محركة صفوياً من قبل المتشددين) بين المسلمين والمسيحيين. فقد كنت بالقاهرة حين تنازع مسلمون ومسيحيون حول موقع أرض ما بجهة بالقاهرة وسالت دماء وهدمت معان.
قصة جريدة “البديل” الأولى من قرية قرارة القبطية (6000 نسمة). وتقع في الصعيد المصري على الضفة الشرقية قريبة من جزيرة شارونة من أعمال المنيا. وفي هذه الجزيرة يدفن أهل مركز مغاغة المسلمين موتاهم في مساحة 15 فدان. وقام اقتصاد قرارة وقبطها بصورة رئيسية على تلاوة القرآن عند تلك المقابر يكريهم المسلمون الذين يفدون للترحم على موتاهم. فالأطفال في هذه القرية هم أكبر مصادر رزق أهلها بما ينالونه من هبات الزوار. لأن المقريء الطفل مرغوب من زوار المقابر دون ذلك الذي تقدمت به السن. ويروي المحرر قصة الطفل عياد الذي يحسن ترتيل سورة يوسف بقراءة ورش. وكان تعلمها من سماع الراديو في خمسة أيام. وأحصى المحرر دخله في يوم فكان جنيهين. وأسرة عياد المكونة من أب وأم وأخوات سبع كلها تقرأ القرآن على الجبانات. وعياد هو نجم تلاوة القرآن. ولذا كثر حساده من زملائه. وتصبر للمحرر قائلاً: “لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال الله محبة” وعلق المحرر إن العبارة إنجلية وليس قرآنية. وهذا “انبعاج” هويات مرموق.
ولهذا التداخل في الهويات غطاءه الفكري. فعادل مرقص يونان (23 سنة) يقول إنهم كمسيحيين لا يرون في شغلهم الإسلامي عيباً. فالدين لله ومصدره واحد والرزق مقسوم للجميع. وإنهم وجدوا أنفسهم في سياق هذا الرزق الرباني لم يتقصدوه. ولم يروا من المسلمين استنكاراً لسبلهم في كسب العيش التي ألجأتهم لتلاوة نصوص من غير كتابهم. فالمسلمون أيضاً يسلمون بأن الرزق مما يجريه الله على الناس كيف شاء. فخانة الديانة ملغاة في منطقتهم ولا يسأل احد عنها أحداً.
إن الأشياء من أسفل رحبة. ونحكي في المرة القادمة مسلم يصنع الصلبان وقبطي ينجر المنابر.

التعليقات مغلقة.