ارتدادات روائية للوباء

158

كان ملفتا أن يجيب الروائي السوداني أمير تاج السر بالنفي القاطع على سؤال قارئ حول ما إذا كان ينوي الكتابة عن وباء كوفيد-19، وهو الذي سبق له أن كتب رواية بديعة بعنوان “إيبولا 76″، حظيت بقراءات عالية عربيا، وتُرجمت إلى 6 لغات حتى الآن. وكما يُشير الاسم يتناول العمل وباء إيبولا، الذي ضرب دولا أفريقية عدة على فترات متباعدة، وأودى بحياة الآلاف.

قد لا يكون تاج السر راغبا في تكرار تجربة سبق له خوضها؛ لكني أميل إلى أن رفضه يعود أيضا إلى إدراكه، وهو الخبير في فن كتابة الرواية، إلى أن الموضوع لم ينضج بعد ليُصبح مادة صالحة للتناول روائيا. ولعل ما يدعم ذلك هو النظر إلى فارق الوقت بين انتشار الفيروس لأول مرة، وقرار الروائي السوداني بالكتابة عنه، حين اختار أن يجسد إيبولا، ويجعلها شخصية رئيسية تُفكر وتخطط وتتحرك للإيقاع بضحاياها واحدا تلو الآخر. وكأنه بذلك يمنحنا فرصة أن نرى الوباء في أعماقه، يا لتلك البراعة!.

وأظن سؤال القارئ قد جاء على خلفية هذا الحماس الكبير البادي في مواقع التواصل الاجتماعي لمواكبة الوباء بالكتابة عنه روائيا، وقد يكون السائل متفاجئا من عزوف تاج السر الطوعي عن تلك المواكبة. لهذا ربما لن يمر وقت طويل باعتقادي حتى نشهد سيلا من الروايات، التي تتطرق لكوفيد-19 بطرق شتى. ووراء ذلك برأيي جملة أمور منها الترويج المبالغ فيه للعزلة التي فرضها المرض كفرصة للإبداع، وهو أمر يتسم ببعض الغرابة. فالمبدع عموما ليس بحاجة لوباء يشلّ العالم كي يعتزل ويشتغل على موضوعاته. عزلة الفنان بحثا عن صفاء الفكرة وتأملا في الذات والكون إحدى العادات الملازمة له على الدوام. ثم إن العزلة التي تأتي في سياق الإجبار تفقد معناها، فالكاتب الذي يُفترض به الانطلاق من الحرية، والعمل بها في اختيار الموضوع وزاويته، سيضيق -لا شك- بانعدام الحرية المتمثل في تضييق حركته قسرا، أو وضعه في شروط لم يخترها.

أمر آخر ساهم في ذلك الحماس، وهو التفات البعض إلى العمل الروائي بمنظور الهوس، الذي يجتاح وسائل التواصل الاجتماعي حول الرائج والمشهور والضاج، تلك الموجات عالية الصخب وسريعة الانطفاء في آن معا. يعرف الروائي، أو هكذا يفترض به، أن الانقياد وراء الهبات الجماهيرية قد يجعل في الغالب لأعماله فترة صلاحية بمثل ما كان لمحركها بالأساس.

كما لا يمكن إغفال الأثر الكبير الذي تركته أعمال عالمية ناقشت الأوبئة أو جعلتها مسرحا أو خلفية لحكاياتها، كالطاعون لألبير كامو، وحب في زمن الكوليرا لغابرييل غارسيا ماركيز، في تحفيز فكرة معالجة الوباء الحالي بهذه العجلة. قد يفوت على المتعجلين أن الرواية ليست فقط ما نود قوله، وإنما الكيفية التي نفعل بها ذلك، وعليه، يفقد السبق معناه طالما هناك ألف شكل للتناول.

خلافا للإعلام، تميل الرواية إلى التعامل مع الأحداث بعد أن تبرد وتُنسى؛ بل وتموت. فالروائي بظني لا يجدر به الاقتراب من القصص المتحركة وغير المنتهية والحاضرة بقوة في أذهان الناس، وذلك لأسباب كثيرة، منها أنه لا يُنافس الكاميرا، ولا ينبغي له ذلك، فلا يعتاش على الإخبار والتنافس على الوصول أولا. ولأنه وهذا الأهم، ليس مُلزما بسرد ما جرى؛ بل ينطلق منه لاحتمالات حكائية مغايرة، وهذا لا يحدث عادة إلا حين تخمد القصة، وتظهر نهايتها، وينصرف الاهتمام اللحظي بها. يحتاج الروائي لينظر في المآلات، ويستنتج الخلاصات مما جرى، لينفذ من كل ذلك إلى مآلات وخلاصات ذاتية، تُغني الحدث وتضيء على غير المرئي فيه؛ بل وتجلب نقيضه حتى، إمعانا في رؤيته بطريقة مختلفة.

يطيب للروائي أن يتعامل مع الأحداث وقد غدتْ جثثا؛ لكن بطريقة مغايرة لما يقوم به المؤرخ. فالأخير يرصد وينقب حتى يصل إلى الجثة، فينقلها من مكان لآخر، بكل الحرص اللازم على عدم المساس بتفاصيلها. فيما الروائي، وبقدر فرحته بالحصول على جثة مكتملة، فإنه يقوم بنقلها وقد أعمل فيها مشرطه حتى تُصبح شيئا آخر؛ لكنه بذلك يبث الروح فيها وإن بملامح وأقدار مختلفة.

لا أريد أن يفهم من كلامي أني أصدر حكما قاطعا بفشل أي تجربة تتناول الوباء روائيا في هذا الوقت؛ لكني أشير فقط إلى صعوبة الإتيان بزاوية خلاقة والحدث ما يزال متطورا. فالفنون تأتي في إحدى صورها كي تتغلب على الحياة، بتقديم احتمالات ومآلات مغايرة، وهذا من الصعب حدوثه طالما الحياة لم تنته من دورها بعد.

الجزيرة

التعليقات مغلقة.