ذاكرة اليونان.. شهادة نادرة حول ظروف وفاة الشريف حسين الهندي في أثينا

280

بقلم: معاوية محمدين أحمد
فيما يلي شهادة ، هي الأولى من نوعها، حول تفاصيل وظروف وفاة المرحوم الشريف حسين الهندي في العاصمة اليونانية أثينا.
شهادة من أحد أبرز المشرفين على المؤتمر الذي أتى الزعيم الراحل من أجله، وأحد أقرب الناس إليه آنذاك، الدكتور علي إبراهيم الحاج المقيم حاليا في اليونان.
هذا المقال ليس نتاج مقابلة شخصية، وإنما إعادة تحرير، لإفادات كتبها الدكتور علي بنفسه عبر الوسائط ، كإجابات لأسئلة طرحتها عليه. وتأتي هذا الإفادة في إطار محاولة لتسجيل وتوثيق أحداث نعتقد أنها على قدر كبير من الأهمية، ولم تر النور بعد. وهي في نفس الوقت دعوة، إلى كل أولئك الذين كانوا قريبين منها، أو شاركوا فيها على نحو أو آخر، بأن يكملوا معنا المشوار. فهي ليست تأريخا محضا، بل تحمل كذلك الكثير من العبر والدروس، فضلا عن أنها حق للمرحوم عليهم أجمعين، ما داموا على قيد الحياة، متعهم الله جميعا بالصحة والعافية، وبالتأكيد حق للأجيال وللشعب السوداني.
لماذا اليونان؟
على الرغم من أن التحضير للمؤتمر الطلابي الذي كان يعد له المرحوم الشريف حسين الهندي مع مساعديه بدأ في وقت مبكر، في سبتمبر 1981، إلا أن فوز حزب الحركة الاشتراكية لعموم اليونان “باسوك”، بزعامة مؤسسه الراحل اندرياس باباندريو في 18 أكتوبر 1981، لعب دورا حاسما في اختيار اليونان، مكانا لتجميع صفوف الاتحاديين، قادة وطلابا. ليس واضحا ما إذا كان الأمر مخططا له من قبل، ولكن صعود الاشتراكيين اليونانيين إلى السلطة، والعلاقة الوطيدة بين الحزبين، وفّرت مكانا مريحا من كل النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية، لحشد المعارضة من جديد. ومما ساهم في ذلك، تسهيل الحصول على الفيزا للمؤتمرين، وتوفير الحماية للمؤتمر أثناء انعقاده. ولمزيد من تأمين المؤتمر تم اختيار مدينة خالكيذا Chalkida، الواقعة في ثاني أكبر جزر البلاد ايفيا، مكانا لانعقاد ، لقربها من أثينا (88 كلم)، ولبعدها كذلك من أعين المراقبة.
كان الغرض من مؤتمر الحزب الاتحادي الديمقراطي، المسمى رسميا “المؤتمر العام للطلاب الاتحاديين في الوطن والخارج”، هو جمع روابط الحزب في تنظيم مركزي في الوطن والخارج. وكان الشريف حسين الهندي يهدف من وراء ذلك إلى تسليم قيادة العمل الحزبي للشباب، وبناء الحزب على أسس فكرية وتنظيمية، تتلاقح فيها التجارب السياسية والإنسانية من خلال تجارب الروابط الطلابية الاتحادية، وتلاحمها وتواصلها مع الأنظمة السياسية في دول المهجر، هي المملكة المتحدة، إسبانيا، رومانيا، بلغاريا، فرنسا، اليونان، مصر، العراق، ليبيا، ألمانيا إضافة إلى روابط السودان. وكان وفد السودان برئاسة المرحوم محمد الأزهري.
تكوّنت لجنة تحضيرية للمؤتمر، من خمسة أعضاء، برئاسة الدكتور علي إبراهيم، وعضوية المرحوم الأستاذ ربيع حسنين، ودكتور عبد الرحمن على، والرشيد الطيب العبيد، وأحمد السيمت، وعصام بابكر العمدة. كان الجانب الامني مهما للغاية منذ البداية، لذا بدأت اللجنة أعمالها في سبتمبر 1981 بصورة سرية تماما. وبلغ التكتم على أعمالها، وتحضيراتها اللوجستية، حتى بالنسبة للمندوبين المشاركين في المؤتمر، الذين لم يعلموا بموعد التئامه إلا قبل وقت قصير من انعقاده. ولم يعلموا كذلك بمكان انعقاده حتى بعد وصولهم إلى اليونان، بما في ذلك قادة الحزب، منعا لتسريب أخباره.
لماذا تأخر الشريف في الوصول؟
لم يكن الراحل بصحة جيدة من البداية، وكان بعض من المكلفين بتنظيم المؤتمر يعلمون ذلك، ولكن تم التكتم على ذلك تماما. كان المخطط له، أن يكون المرحوم حاضرا في المؤتمر منذ بدايته، لكنه اصيب بأزمة قلبية حادة في جدة في المملكة العربية السعودية، لزم بسببها غرفة العناية المركزة. لم يكن يعلم أحد ما حدث، إلا قلة قليلة من الأشخاص، وبقي عند ظن الجميع أنه مجرد تأخير اقتضته ظروف غير محسوبة كثيرا ما تحدث عند السفر، فظل الجميع يتوقع حضوره في أي لحظة.
وفي صباح الثامن من يناير 1982، بدأ برنامج اليوم الختامي بجلسة صباحية، تم فيها إنتخاب “الأمين العام للطلاب الاتحاديين بالوطن والخارج” وهو الدكتور علي إبراهيم الحاج بالتزكية، بينما تقرر أن يكون لكل رابطة مقعد في اللجنة التنفيذية، على أن تختار ممثلها بعد عودتها، عبر جمعيتها العمومية. وتم كذلك إعداد قرارات، وتوصيات المؤتمر تمهيدا لإجازتها في الجلسة الختامية، المقررة مساء ذلك اليوم.
يقول الدكتور علي إبراهيم “في حوالي الساعة الثالثة عصر ذلك اليوم، اتصل بي المرحوم الشريف حسين، وقدمت له ملخصا عن المؤتمر. وقلت له نحن بصدد عقد الجلسة الختامية، وإجازة التوصيات والقرارات، وغدا إن شاء الله ستغادر كل الوفود أثينا، عائدة إلى بلادها. وقال لي إنه في مطار عمّان، ولكن هناك إضرابا للملاحة الجوية في مطار أثينا، وبمجرد انتهائه سيصل بأول طائرة. وطلب مني ألا تنعقد الجلسة الختامية، وأن يظل المؤتمر في حالة انعقاد لحين حضوره. وقال لي إن لديه كلاماً مهماً لابد ان يقوله للمؤتمر. قلت له إن الميزانية الموضوعة قد نفذت، وبعد غد ستجري انتخابات اتحاد الطلاب السودانيين في لندن، ولا بد من عودة طلاب لندن. وكان الاتحاد تحت سيطرة الاتحاديين. فقال لي ضحوا باتحاد لندن، اما بالنسبة للميزانية فلدي ما يكفي من المال. ولم أجادله. وفهمت أن هناك رسالة مهمة يريد أن تصل”.
هل كان المؤتمر مهما، حتى يحرص على حضوره وهو الخارج لتوه من ذبحة صدرية؟
المؤتمر كان عملا متقدما، وكان يؤسس لحزب متطور، له رؤية فكرية وسياسية، تعالج قضايا اللحظة، وتتعامل بمرونة مع متطلبات المستقبل على ركائز مبدئية ثابتة، و دار فيه نقاش حيوي وجريء بوضوح وشفافية. وقُدّمت فيه أوراق مهمة نالت حظها من النقاش والتعديل والتصويب. ويقيني، لولا إرادة الله الغالبة في الرحيل المفاجئ للشريف، أن المؤتمر كان سيشكل نقلة نوعية مهمة في مسار العمل السياسي السوداني، وكان سيضع الحزب في موضع القيادة والريادة، كما كان في عهده الأول.
كان جل المؤتمرين من الشباب بنسبة بلغت أكثر من 90 %. وأغلبهم من روابط الطلاب في الوطن والخارج. لا يعلم أحد ماذا كان سيقول الشريف في المؤتمر، لكنه أوضح قبل ساعات من وفاته، أن لديه كلاما مهما كان يريد أن يقوله قبل أن ينفض المؤتمر. ولكننا كنا ندرك، بما لا يدع مجالا للشك، في أنه كان يريد أن يسلم أمانة الحزب للشباب، بعد أن يؤهلهم فكريا وتنظيميا لحمل الأمانة، لأنه أرهق أيما إرهاق من الزعامات الزائفة، والسطحية بلا مقومات، وقد عبر عن ذلك في رسالته القيّمة للرئيس إسماعيل الأزهري في ذكرى رحيله العاشرة، حيث قال “تركت لنا حزبا كله زعامات، وما أصعب التعامل مع الزعماء”.
وما الأزمة الماثلة الآن، والتي حولت حزب الحركة الوطنية إلى جزر متناثرة، ألا “ميكروب الزعامات المزعومة”، وهو ما يدل على النظرة الثاقبة للشريف حسين.
ضم المؤتمر كل الأطياف السياسية. والحزب فيه تيارات سياسية متعددة ومركزه الوسط، وفيه يسار الوسط ويمين الوسط. وعرف نفسه في نظامه الأساسي بأنه حزب اشتراكي ديمقراطي. وهذا هو موقعه في المنظور السياسي العالمي. ومن هنا تنبع العلاقة مع الحركة الاشتراكية لعموم اليونان باسوك PASOK ، بالرغم أن الشريف كانت تربطه علاقة صداقة مع الزعيم التاريخي لليمين اليوناني الراحل قسطنطين كرامنليس الذي تعرّف عليه أثناء وجود الأخير في منفاه الاختياري في باريس خلال فترة الحكم العسكري في اليونان.
وما لم يكن يعرفه الكثيرون أن الشريف كان يحضر الانتخابات البرلمانية اليونانية بلا انقطاع إلى أن توفاه الله. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق اهتمامه بالعملية الديمقراطية، لا سيما وأن اليونان هي مهد الديمقراطية، ورمزها في أوروبا.
من المهم الاشارة إلى أن الحزب كان لديه، قبل وفاة الشريف، لجنة قيادية في الخارج مكونة من الأساتذة عبد الماجد أبو حسبو، أحمد زين العابدين، عمر محمد عبدالله، محمد عبد الجواد وحسن حامد مهدى. وللأمانة كانت لجنة صورية، اذ لم يكن لها دور واضح محدد، كما أن تأثيرها على مجريات الأحداث السياسية يكاد يكون معدوما، لأن كل خيوط إدارة الفعل السياسي والاقتصادي، كانت في يد الشريف حسين. وبالمقابل كانت في داخل الوطن لجنة قيادية مكونة من الأساتذة حاج مضوي محمد أحمد، ودكتور عثمان عبد النبي، وعلي محمود حسنين ودكتور مبارك الفاضل شداد.
وصول الشريف إلى أثينا
وصل الشريف حسين إلى أثينا ظهر يوم 9 يناير 1982، وكان برفقته الأستاذ أحمد حامد، وأقام في فندق “الملك مينوس king Minos”، الواقع في “ميدان أومونيا Omonia square” في قلب المركز التجاري للعاصمة اليونانية، وقد تغيّر اسمه حاليا إلى اسم آخر. وهو في الفندق طلب من الأستاذ أحمد أن يأتي له بسندوتش لأنه جائع، ونبهه إلى أنه ربما يلتقي صدفة، خاله المرحوم أحمد خير أو المرحوم عبد الماجد أبو حسبو في الطريق.
خبر الوفاة
خلال ذلك الوقت كنت قد ذهبت أنا، ودكتور دفع الله أحمد دفع الله، ودكتور الباقر أحمد عبد الله، وعصام العمدة، لإجراء حوار مع وفد من الطلاب السودانيين في السكن الطلابي بمنطقة اليسيا “داخلية إليسيا” رضوخا لطلبهم، ومن ثم ذهبنا لمنزل الأخ عصام العمدة. وبمجرد دخولنا، في حوالي السادسة مساء، رن جرس التلفون، ورد عليه عصام، وعاد مضطربا دون ان يفهم ما الذي حصل، وأخذت أنا السماعة. كان المتحدث موظف اللستقبال في الفندق الذي يقيم فيه الشريف، وكان مضطربا جدا، وأبلغني أن أحد معارفكم ولسمه عبدالله وهو الاسم الحركي للشريف وصل، وهو في حالة خطرة. ومن الطريقة التي تحدث بها، شعرت بأنه يخفى شيئا، فقلت له أنى طبيب، وأرجو أن تكون واضحا معي، فأقرّ بأنه توفي. ذهبنا إلى مستشفى الصليب الأحمر، الواقع على مسافة نحو نصف ساعة من الفندق، ودخلت عليه ووجدته مسجى، وكشفت عن وجهه وتأكدت منه، رحمه الله رحمة واسعة، واسكنه فسيح جناته مع الصديقين والشهداء والصالحين.
بعد ذلك اتصلت تلفونيا بالهيئة القيادية للحزب في مكان انعقاد المؤتمر في مدينة خالكيذا، وطلبت منهم الحضور إلى أثينا لأمر مهم جدا. وعندما حضروا أبلغتهم بالخبر المحزن، الصادم. وذهبت إلى خاله المرحوم أحمد خير المحامي، وأبلغته أيضا. وطلبت من أعضاء المؤتمر أن يحضروا في مجموعات صغيرة، وبصورة هادئة، إلى أن تجمّعوا كلهم في أثينا.
وباقى القصة معروفة، حيث رفض النظام في البداية، قبول الجثمان في أرض الوطن. وطلب الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود، احضاره للمملكة العربية السعودية، وكذلك طلبت ليبيا والعراق. وتقديرا لموقف تلك الدول، توجه الجثمان إلى ليبيا ثم إلى العراق وبعد ذلك إلى السودان. وفى ليبيا نعاه القذافي، وفى العراق ميشيل عفلق.
فى اليوم التالى لسفر الجثمان، عقد الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو مؤتمرا صحفيا حضرته أجهزة الإعلام اليونانية والأجنبية وكنت في معيته بالإضافة إلى الأستاذة إسماعيل طه، ومنصور شاشاتى، وعصام العمدة.
تداعيات الوفاة المفاجئة
جرى حديث كثير عن أموال كان يحملها المرحوم معه، وحتى رحلة عودة الجثمان إلى الوطن عبر أكثر من دولة، تم تفسيرها من البعض بأنها كانت في الحقيقة حلا وسطا لارضاء تيارات داخل الحزب، أبرزها ما سمي ب “تيار بغداد وتيار ليبيا داخل الحزب”.
اين ذهب مال الشريف؟
الأمر الذي كان محيرا لنا هو، أنه حين وصولنا إلى المستشفى في حوالى الساعة السابعة مساء، حيث كان يرقد الجثمان، لم نجد المرافق أحمد حامد، ولم يتسن لنا معرفة مكانه. وحضر في حوالى الساعة الرابعة من صباح اليوم التالي الموافق 10 يناير 1982. ولا يعرف أحد حتى الآن أين ذهب المبلغ الذي كان بحوزة الشريف، أو ما إذا كان يحمل معه أشياء أخرى. ليس هذا وحده، بل لا يعرف أحد، حتى هذه اللحظة أين ذهبت أموال الشريف، التي كانت في البنوك. وكما هو معروف فأن صحيفة الدستور اللندنية كانت ملكا للشريف، وبقي مآلها المالى أيضاً في حكم الغيب. ومبلغ علمي أن المرحوم أحمد خير، طالب أن تعود تلك الأموال للحزب، لأن الشريف رحمه الله كان زاهدا في أمر المال، وكان يسخره بالكامل للعمل السياسي والإنساني.
تيار بغداد وتيار ليبيا داخل الحزب
لم يكن هناك تيار لبغداد وتيار آخر لطرابلس، كما أشيع. ولكن كانت هناك تباينات في وجهات النظر في بعض القضايا. فمثلا كان الأستاذ عبد الماجد أبو حسبو يعتقد أن الابتعاد عن ليبيا بعد مصالحة حزب الأمة والإخوان المسلمين مع نظام نميري فيما سمي بالمصالحة الوطنية، كان خطأ لأن ليبيا، دولة مجاورة، وتأثيرها مباشر. وكان يعتقد أيضاً أن تأييد الحزب للعراق في حربه على إيران، خطأ آخر، لإيمانه بأن ثورة الخميني هي التجديد الموعود للإسلام كل مائة عام، وإنها تمثل إضافة إيجابية للنضال العربي والإسلامي، وانتصار للحرية والعدالة. والحقيقة كان السيد عبد الماجد أبو حسبو متواجدا في أثينا، ولكنه لم يحضر المؤتمر لأسباب أجهلها. كما وضح أن خال الشريف المرحوم أحمد خير المحامي، كان متواجدا Hيضا في أثينا، ومعلوم بأنه لا ينتمي للحزب الاتحادي الديمقراطي. ونسبة للتربية التنظيمية والسرية المطلوبة في ذاك الزمان، ما كان لنا أن نسأل في أمور مثل هذه. ومع ذلك بقي كل ذلك مجرد وجهات نظر دون ان يكون لها تأثير على مواقف الحزب المعلنة.
لفهم حركة الشريف النضالية لا بد أن نقف على مبدأ أساسي، وقف وثبت عليه، وهو استقلالية نضاله، وعدم رهنه لأى جهة كانت أو المساومة عليه. وكان يقول نحن حركة نضال وطنى نقبل الدعم والمساندة والمساعدة من أي جهة، ولكننا لن نقبل أي شروط مقابل ذلك الدعم.
وفي حقيقة الأمر فإن ذهاب الجثمان إلى ليبيا ثم العراق، فرضته ظروف تلك اللحظة بعد رفض النظام بداية استقبال الجثمان، وكان لا بد من حل عاجل لتلك المعضلة. فوافقت تلك الدول أن يدفن فيها، ثم اتصل الأمير نايف بن عبدالعزيز آل سعود لنفس الغرض، وعرفانا لهذا الموقف قررت قيادة الحزب، أن يمر الجثمان عليها، وبعد ذلك يذهب إلى الخرطوم بعد الموافقة المشروطة من قبل السلطة.

التعليقات مغلقة.