إسماعيل جبريل تيسو
تعاطفتْ منصات التواصل الاجتماعي، وزرفت الشجن والأسى دموعاً وهي تطالع الأسبوع الماضي مقطعاً مصوراً تداوله نشطاء، يظهر فيه المربي الفاضل وأستاذ الرياضيات الأشهر مهاجر عبد الرحمن، وهو ينعى في مشهد حزين الفنان الراحل الأستاذ حمد الريح الذي رحل إلى رحاب الله مطلع ديسمبر الجاري بالخرطوم.
ويبدو أن الأستاذ مهاجر كان قد فرغ من إحدى حصص الرياضيات، فأفرغ شحنة الحزن على رحيل الفنان حمد الريح فيما تبقى من مساحات السبورة بكتابة نص أغنية (الصباح الجديد) التي صاغ كلماتها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي، وبدأ في ترديد الأغنية مقتسماً مع السبورة حزناً دفيناً عبّـر عنه بصوته الآثر الجميل ونبراته التي تهيم حباً بالفنان حمد الريح وتبكي على رحيله المر:
اسكني يا جراح
واسكتي يا شجون
مات عهد النواح
وزمان الجنون
وأطل الصباح
من وراء القرون
في فجاج الردى
قد دفنت الألم
ونثرت الدموع
لرياح العدم.
الموقف ليس بغريب لمن يعرفون الأستاذ مهاجر عبد الرحمن، المعلم الشفيف والإنسان الرهيف، فالرجل يختلف عن أقرانه ورصفائه في بلاط مملكة الطبشور، إذ يتفرد بشخصية تنوء بتناقضات تشفق عن حملها الجبال، ولكنها تناقضات موجبة تجري جميعها في بحر الخيـر بما ينفع الناس، فلم ينتقص ارتباط الأستاذ مهاجر بمادة الرياضيات الجافة وتدريسه لها شيئاً من رقته وحنيِّته، فكثيـراً ما يفاجئك الرجل وقد انفجر باكياً جراء موقف إنساني، قد يراه الكثيرون عادياً ويمر من أمامهم دون أن يرتجف لهم جفن.
ويقيني أن العام 2020، قد حفر في وجدان الأستاذ مهاجر عبد الرحمن، جرحاً عميقاً برحيل والدته (حرم) أحنَّ القلوب إليه، وأحبَّ النفوس إلى روحه، وأنبل إحساس لامس شغاف قلبه، فاعتصره الألم وما يزال، لتأتي فاجعة رحيل الفنان حمد الريح وتزيد وجع القلب الكسير، كيل بعيـر، وما أصدقها من دموع، عندما يذرفها فنانٌ على رحيل فنان.
والواقع أن الراحلة الحاجة (حرم) لم تكن والدة الأستاذ مهاجر وحده، بل كانت أمَّ الجميع، من زملائه وأهله وجيرانه، بل وحتى طلابه النجباء ممن كانوا يفتقدون المأوى، فتكون الحاجة (حرم) ملاذاً آمناً، ومأوىً حاضناً يفجِّر طاقة العطاء ويحفِّز على استمرارية نبوغ هؤلاء الطلاب الذين تفوقوا وكانوا عند حسن ظن الأستاذ مهاجر ووالدته الراحلة، فمنهم من أصبح الآن طبيباً ومنهم المهندس والمحامي والمعلم، ومنهم المرموق في وظيفته ومجتمعه.
قد تضيق مساحة المقال عن استعراض المواقف الإنسانية النبيلة للأستاذ مهاجر عبد الرحمن، صاحب الأيادي البيضاء على الكثير من الطلاب في مختلف ولايات السودان، فالمعلم الذي ذاع صيته في براعة تدريسه لمادة الرياضيات على مستوى السودان، لم يعرف الغرور إلى نفسه سبيلاً، بل ظل ملتزماً بتواضع العلماء في حلِّه وترحاله، وليس بدليل أبلغ من هجرته المستمرة إلى مختلف مدن وأرياف السودان لتدريس الطلاب مادة الرياضيات، فلم ينتظر أن يأتيه الطلاب من أطراف السودان وإنما كان يهاجر إليهم لينفعهم بعلمه دون أن ينتظر منهم أجرا، بل ظل يقدم لهم مذكرات الرياضيات التي يؤلفها وبالمجان.
إنسانية مهاجر وأخلاقه الرفيعة كانت تدفعه للجلوس مع بائعات الشاي والقهوة ليتعرف على مشاكلهن عن قرب، ويتدخل لمعالجة هذه المشاكل بسداد الرسوم الدراسية للأبناء أو سداد متأخرات الإيجار، لا يريد في ذلك جزاءً ولا شكورا، ويُعرف عن أستاذ مهاجر عبد الرحمن اهتمامه بطلابه لدرجة تتجاوز حدود تدريسهم مادة الرياضيات إلى علاقة إنسانية أعمق من علاقة المعلم بطلابه، فوصلت هذه العلاقة درجة أن يرافق الأستاذ مهاجر أحد طلابه المرضى بالفشل الكلوي إلى الهند رغبةً في الاطمئنان على صحة وسلامة طالبه النجيب.
وعلى هذه المعاني، تمضي المباني، وقد شادها الأستاذ مهاجر عبد الرحمن لتكون راسخة القيم، مسنودة بمبادئ الإيمان والعمل الصالح، فهو رجل اختصه الله بقضاء حوائج الناس، حبَّبه للخير وحبَّب الخير إليه، فبات آمناً في عطائه، صادقاً في عهده مع الله، فأصبح مثالاً يحتذى ومضرباً في تحريك البوصلة في اتجاهات النجاح والفوز بالفلاح، وعلى قدر أهل العزم، تأتي العزائم.
التعليقات مغلقة.