عبدالرسول النور يروي عن أيام بيوت الأشباح: الكلام المباح عن بيوت الأشباح وسر الزنزانة (16)!!
بسم الرحمن الرحيم الحمد لله الوالي الكريم والصلاة على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه مع التسليم..
(واصبر وما صبرك إلا بالله.. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون.. إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) صدق الله العظيم..
كان أكثر ما يقلق قادة الانقلاب 1989م.. هو الروح المعنوية العالية التي واجه بها المعتقلون من الوان الطيف السياسي والنقابي والعسكري والاجتماعي كافة كل تدابير التمويه والكيد والمكر التي ابتدعها الانقلابيون.. فقد حولوا السجون والمعتقلات إلى مهرجانات صمود وكرنفالات فرح وسخرية من النظام وسياساته.. التي لخصها الدكتور الشاعر إدريس عبدالله البنا.. نائب رئيس مجلس رأس الدولة في الديموقراطية الثالثة.. حين كشف التمويه وفضح الخدعة..
مما شفتا سلاحك شاكي
وبومك راكي.. ما شكيت وما غبيت..
وما كنت شاكي.. ديل الكيزان لابسين كاكي!!
والتي قُدم بموجبها إلى المحكمة العسكرية.. التي برأته.. عندما طلب من الاتهام قراءة القصيدة حتى يقرر هل هذه قصيدته أم لا لأن نظره ضعيف ولا يستطيع القراءة!.. فطلب القاضي من الاتهام تلاوة القصيدة على الملأ.. فصعب عليه الأمر وتلعثم فشطبت القصيدة اللاذعة وهي اول قصيدة هجاء للنظام وقد قام الشاعر بترجمتها الي اللغة الإنجليزية.. كما كانت ليالي السمر في فسحات السجن الضيقة والاهازيج الكورالية تهز اركان السجن العريق فيتجاوب معها سجناء السرايا.. والاقسام الأخرى..
نغني ونحن في أسرك
وترجف وانت في قصرك!ٰ!
كانت السجون وعلى رأسها شيخها الوقور (كوبر) قد أضحت جزرا محررة وواحات للديموقراطية وسط جحيم الدكتاتورية و الطغيان.. فتفتقت عبقرية الطغاة عن وسائل للنيل من صمود المعتقلين وكسر أنفتهم وعزتهم.. فبدأوا بعزلهم عن بعضهم البعض في حبس انفرادي قاس.. تمهيدا لإرهابهم وتعذيبهم نفسيا وبدنيا وعائليا.. بحرمان أسرهم من زيارتهم أو تلقي أخبار عن أحوالهم.. بل يعمدون إلى اللعب علي أعصابهم بنقل أخبار زائفة عن أسرهم..
مثلا.. لما أحسوا أن أحد المعتقلين يظهر الاهتمام الزائد بأخبار عائلته.. لعبوا على هذه العاطفة الزائدة.. فيسألونه في شفقة وبراءة.. انتو عندكم زول عيان؟ فيجيب بالنفي ثم يضيف منزعجا ليه؟ فيأتيه الرد.. شايف في خيمة عزاء جنب البيت.. ما عارف الحصل شنو؟ فيزيد انزعاجه وقلقه فيحاول أن يجد مزيدا من المعلومات.. وإلى هنا يختفي المخبر ويتركه في ظلمات من الحيرة والشك المريب ََثم تطور التفكير الجهنمي إلى إنشاء سجون ظلام.. لعلهم أخذوا الفكرة من دول لها القدح المعلى في فنون التعذيب وإذلال المعارضين.. فبدأوا ببيوت داخل الأحياء خصصوها لكسر الصمود أو كسر الرقاب.. فمن استعصي كسر صموده كسروا عنقه..
كان من بين هذه البيوت سيئة الصيت.. مركز الانتخابات في قلب الخرطوم.. ولعله هو المنزل الذي تم فيه تعذيب د. علي فضل نقيب الأطباء وقتها علي أيدي زملائه الأطباء الذين استوصوا به شرا.. حتي مات بدق مسمار صدئ في رأسه وألصقوا التهمة بالملاريا..
كان المعتقلون معصوبو العيون يلتحفون الأرض ويتغطون بسقف الغرف المظلمة الرطبة كريهة الرائحة من العرق والدم وبقايا الطعام.. وكان الجلادون القساة منقبون حتى اذا ما تمكن احد المعتقلين من الأبصار لا يرى إلا أشباحا تسعى.. المعتقلون أشباح وكذلك الجلادون.. لهذا جاءت التسمية.. (بيوت الاشباح) والتي لا يعلم ما جري بداخلها الا الله.. فقد حدث بداخلها كل ما يخالف الشرائع السماوية و الأرضية والضمير الإنساني وحقوق الإنسان..كل ذلك كان يتم باسم الإسلام دين الرحمة والعدالة والتسامح والإسلام بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.. انهم كانوا لأنفسهم يمهدون.. و شعارهم الغاية تبرر الوسيلة كما قال بذلك الفيلسوف الإيطالي ميكيافللي الذين يلعنونه جهرا ويسيرون على هداه!
كانت سمعة بيوت الأشباح قد بلغت الافاق..
فسار بها من لم يسر مشمرا.. وغنى بها من لم يغن منشدا..
وقد بلغ سوء سمعة بيوت الأشباح وما يجري فيها مبلغا عظيما مما اضطر النظام إلى إغلاقها وانكارها.. لأن الشينة منكورة.. بعد أعوام من ممارساتها السيئة.. و إلحاق القائمين عليها من الشباب الذين غسلت أدمغتهم وشحنوا بالكراهية والبغضاء بالمتحركات القتالية عسى أن تغسل (ما ظنوه وهما.. شهادة) سوء ما فعلوا! وعلمنا ان كثيرين منهم لم يعودوا ابدا.. فقد كانوا يعملون مع نظام لا يرعى فيهم إلاً ولا ذمة يقذف بهم قذف النواة إذا ما أكملوا مهمتهم.. مثل ضحايا محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك فمن لم يقتله الإثيوبيون والمصريون في المعركة.. قتله من أرسلوه خوف افتضاح الأمر..
خرجت عام 1994م من بيت الأشباح الأشهر المعروف استهتارا بالواحة.. بعد أن ظن الجلادون أن أيامي صارت معدودة بعد أن هدني الجوع المرض وسوء الحال.. ولا يريدون أن أموت عندهم فحملوني وأنا في غيبوبة ووضعوني علي باب منزلي بالحتانة.. ورجعوا.. ولما تعافيت كان الزوار يعجبون من تدهور صحتي.. وسوء حالي.. وكان من بين الزوار أحد أقاربي رجل شهم كريم شجاع وما إن رآني.. فقد تماسكه وبكى.. ثم قال والله السجن بيت الرجال.. معروف.. ولكن أنا زعلان شديد كيف يودوك بيت (الأحباش)!!
كانت الزنازين التي بناها الحكم الثنائي في السجون كافة وفق المواصفات الدولية من حيث المساحة والتهوية و الأرضية.. وكانت أبوابها من القضبان لمرور الهواء واشعة الشمس.. ولكن الإنقاذيين رأوا في تلك الزنازين فخامة لا يستحقها خصومهم.. فأنشاوا زنازين أضيق مساحة وأصغر حجما وأخشن بلاطا وبابها تغطي قضبانه الواح من الصاج إلا فتحة صغيرة (منور) لا تسمح بمرور الهواء في صيف غائظ.. ويحدث الصاج عند الضرب عليه صوتا يطرد الهدوء. والنوم والراحة بالإضافة إلى أنه يحجب الرؤية والهواء..
وبيت أشباح الواحة الذي عشت فيه حبسا منفردا اكثر من عام.. يقع في قلب الخرطوم.. شرق عمارة ستي بنك.. وقد كان سجانونا يمتنون علينا بأننا نسكن معهم في قلب الخرطوم بعد ما كنا نسكن في أطراف المدن!
بنيت الزنازين في شكل( shape( u
إبوابها إلى الشمال
والغرب والجنوب وهي في الركن الشرقي للبيت الكبير.. وفي الساحة التي تفصل بين الزنازين والغرف الرئيسة للمنزل والتي خصصت للاعتقال الجماعي.. تمارس كل وسائل التعذيب والإهانة نفسيا وجسديا.. و الزنازين تبدأ من الغرب الجنوبي وتتوسطها أشهر الزنازين 13 و14و15 وانتهاء بـ 16، وهي في الركن الشمالي الشرقي وغربها الزنزانة الأكبر حجما وكنا نسميها الصين الشعبية حيث يحشر فيها المعتقلون حشرا وهم صاغرون.. وبما إني تنقلت بين زنازنتين.. 13و15 كنت أختلس النظر واسترق السمع لما يدور في الموقع.. وبحكم طول إقامتي فقد دبرت أمري واستملت بعض الحراس بوسائل تجيزها الضرورات التي تبيح المحظورات.. وكنت سعيدا بالحبس الانفرادي مقارنة بتكدس الآخرين في زنازين ضيفة يتوسطها طست للبول الجماعي! والنوم والجلوس بالتناوب..
كنت في زنزانتي أرى بوضوح زملائي يغدون ويروحون إلى الحمام ولكن لا أستطيع التحدث إطلاقا الا ايماء.. كانت الأعداد كثيرة ومتعددة.. وكان الصمود سيد الموقف فلا شكوي أو أنين أو ضعف ولين.. من ألوان الطيف كافة ومن الأعمار كافة.. نسمع سخرية الحاج مضوي محمد أحمد وغضبة الحاج نقدالله المضرية.. وهرشات الأستاذ سيد أحمد الحسين وصمود وصبر بكري عديل وصلاح سمعريت وثبات يوسف حسين وإصرار فضل الله برمة على عدم الاستجابة لتعليماتهم وهيبة الإمام الصادق وهو رابض أرضا في الزنزانة 16 التي سنعود لها في حديث منفصل بإذن الله تعالى وتوفيقه.. كان هناك في بعض المرات حبيب سرنوب الضو والزهاوي إبراهيم مالك ومولانا الوقور أبوزيد محمد حمزة وعثمان عمر الشريف وعبد الرحمن فرح ود. حماد عمر بقادي.. وفاروق زكريا.. وعلي حمدان وإسماعيل بلول وياسر النعمة و د. إبراهبم الأمين.. وعبد المحمود أبو..و منصور مصطفى ومحجوب شريف ومحجوب عروة وعثمان ادريس هباني.. وعوض الجيد..والفاضل آدم إسماعيل ود. أحمد إبراهيم دياب وغيرهم كثيرون صبروا وصمدوا حتى يئس الذين ظلموا من ان ينالوا ضعفا او انكسارا من المعتقلين الابطال.. ليعلم ابناؤنا الشجعان انهم وجدوا أرضية قوية ومنصة ثابتة للانطلاق لتقويض النظام الظالم.. انها ثورة النضال التراكمي الدؤوب المتواصل وقد اكرمهم الله بان كانت نهاية الباطل الذي ظن اهله من طول البقاء انهم خالدون.. علي أيديهم بعد ما قدموا رتلا من الشهداء.. الشهيد تلو الشهيد لم تتراجع جموعهم الهادرة حتي اقتلعوا نظام الظلم القاهر من جذوره.. فلهم منا الشكر والتقدير والعرفان..الرحمة والمغفرة للشهداء وعاجل الشفاء للجرحى والعودة السريعة للمفقودين والمرضى..
اما الزنزانة (16) ببيت الأشباح الواحة.. والتي تعاقب عليها.. الراحل الزهاوي إبراهيم مالك وحبيب التونسي.. والشاعر محجوب شريف.. والصحفي محجوب عروة والإمام الصادق المهدي وأبو محمد الفلسطيني ومحمد الجزائري.. (قرد الطلح) واليهودي (محمد) .. فيليب البلجيكي.. واخرون ..فسوف نقف عندها لأهمية الأشخاص والوقائع التي تمت فيها.. بإذن الله..
نزيل الزنزانة (15)
التعليقات مغلقة.