“فوبيا” روسيا في ليبيا تدفع الولايات المتحدة إلى التعاون العسكري مع السودان

245

محمد أبو الفضل

 بدأت الولايات المتحدة تحركات حثيثة باتجاه السودان تجنبها تكرار سيناريو التسلل الروسي إلى ليبيا، ومن قبلها سوريا، ودخلت في محادثات جادة حاليا مع الخرطوم للتوصل إلى تفاهمات بشأن اتفاقات أمنية وعسكرية مشتركة، تتضمن حتى الآن توفير عقود تسليح للجيش السوداني، وبرامج تدريب لضباطه.

وتشمل المرحلة الجديدة من التنسيق بين البلدين، تعاونا استخباراتيا في مجال مكافحة الإرهاب والجماعات المتطرفة في القرن الأفريقي، وربما تصل إلى السماح لقوات أميركية باستخدام تسهيلات عسكرية في السودان.

وأعلنت السفارة الأميركية في الخرطوم، الأحد، أنها ترغب في تعاون عسكري وثيق مع السودان، وأن الملحق العسكري بها المقدم جاكوب داي، يعمل مع الجيش السوداني لتعزيز العلاقات الثنائية.

وأوضحت على صفحتها الرسمية في فيسبوك أن داي ينطلق في مناقشاته من نقطة شطب السودان مؤخرا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وأن واشنطن تعتبر ذلك “تغييراً أساسياً وتاريخياً” في العلاقات بين الدولتين.

وشطبت إدارة الرئيس المنتهية ولايته دونالد ترامب رسميا، في الرابع عشر من ديسمبر الجاري، اسم السودان من لائحة الدول الراعية للإرهاب، ما يعني إزالة القيود على أي تعاون عسكري أميركي معه.

والتقى جاكوب داي مع قائد القوات البحرية اللواء حاج أحمد يوسف بابكر في القاعدة البحرية على البحر الأحمر السبت الماضي، وبحث معه سبل تطوير العلاقات العسكرية الثنائية.

تعبيد الطريق

جاء التحرك الأميركي عقب نحو شهر من معلومات رشحت حول عزم روسيا تأسيس مركز لوجستي تابع لبحريتها في بورتسودان على البحر الأحمر، قد يصبح نواة لقاعدة عسكرية، ويستوعب المركز 300 جندي، وأربع سفن، وفقا لاتفاق عقد منذ ثلاث سنوات، مدته 25 عاماً، قابل للتجديد لمدة 10 سنوات أخرى.

والتزمت الخرطوم الصمت في البداية حيال هذه المعلومات، غير أن رئيس هيئة أركان الجيش السوداني الفريق الركن محمد عثمان الحسين، نفى وجود اتفاق كامل مع موسكو، مؤكدا استمرار التعاون العسكري معها، وقال إن “السودان لن يفرط في سيادته، والاتفاق مع روسيا حول القاعدة يخضع للدراسة”.

وبدا الموقف السوداني من روسيا مفتوحا على احتمالات متباينة، وكأن الخرطوم كانت تريد في ذلك الوقت الضغط على واشنطن لعدم التلكؤ في رفع اسم السودان من قائمة الإرهاب، والتلويح بأن موسكو يمكن أن تكون حليفا قويا لها.

وخدم الكشف عن جانب من تفاصيل الاتفاق السابق بين السودان وروسيا في هذا التوقيت، الخرطوم كثيرا، حيث استشعرت الولايات المتحدة أنها تخسر أمام موسكو، فبعد أن كرست وجودها العسكري في سوريا جراء التردد والارتباك الأميركي، ودخلت ليبيا، أصبحت قريبة من تثبيت أقدامها في البحر الأحمر.

وانتفضت على إثر تأكدها من زيادة الوجود الروسي في الأراضي الليبية، وحثت حلفاءها في أوروبا على مواجهته قبل تناميه بما يصعب اقتلاعه، خوفا من تطويق أوروبا، ومحاصرة حلف شمال الأطلسي في شرق وجنوب البحر المتوسط.

وخشيت واشنطن أن تضع موسكو عينها على ليبيا، وتوظف التطورات هناك وتحصل على قاعدة عسكرية تمثل كماشة مع قاعدتها الكبيرة في ميناء طرطوس بسوريا.

ومع أن قوة الدفع التي وفرتها الولايات المتحدة للحل السياسي، عبر بعثة الدعم الأممية في ليبيا، لم تسفر عن النتائج المتوقعة أو تنهي وجود روسيا، غير أنها لفتت الانتباه لمخاطر تكريس نفوذها.

وكانت إدارة الرئيس ترامب تعتقد أن التدخل العسكري التركي في ليبيا يمكنه أن يكبح موسكو، غير أنها اكتشفت أن هناك لعبة توزيع أدوار بينهما تتم على الأراضي الليبية، وقد تكون قريبة مما حدث في سوريا.

ويدق اقتراب روسيا من المياه الدافئة في البحر الأحمر، بعد المتوسط، جرس إنذار للولايات المتحدة، التي تخلت عن الكثير من أدوارها ضمن خطة انسحاب تدريجية، الأمر الذي ساعد موسكو على جني ثمار هذا الفراغ، خاصة أن تركيا يمكنها ممارسة اللعبة ذاتها مع روسيا في السودان الذي يمثل لها أهمية استراتيجية تاريخية.

وتكشفت فصول تعاون مثير بين موسكو وأنقرة في كل من سوريا وليبيا، ثم أذربيجان، وإذا تكررت هذه السيناريوهات في البحر الأحمر أيضا سوف تكون لها تداعيات وخيمة على الكثير من موازين القوى في المنطقة.

وسعى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الحصول على قاعدة بحرية في مصر، أو تسهيلات عسكرية، غير أن كافة ضغوطه ومناوراته لم تمكنه من الوصول إلى هذا الهدف، ووجد في القيادة العسكرية بالسودان مدخلا لتحقيق هذا الغرض.

صراع النفوذ

تعيد هذه التطورات أجواء الحرب الباردة إلى الأذهان، حيث يحاول كل طرف زيادة نفوذه مباشرة أو عبر وكلاء آخرين، ما يعني أن هناك فصولا لم تتكشف بعد في السباق بين القوى الكبرى على مناطق النفوذ، لأن الولايات المتحدة وروسيا لم يكونا اللاعبين الوحيدين، فمن الصعوبة تجاهل النفوذ الصيني المتصاعد في أفريقيا.

وقد تتشكل توازنات جديدة في المنطقة، حيث يريد السودان الاستفادة مما بحوزته من أوراق مهمة لتعظيم مكاسبه من الصراعات الخفية بين روسيا والولايات المتحدة.

ويسير الجيش السوداني على نهج نظيره المصري في تنويع علاقاته بين الشرق والغرب، وعدم قصرها على قوة واحدة، ويحاول قادته عقد صفقات مع قوى عدة لمنع ارتهان قرارهم بدولة معينة، ما دفع إلى تمديد خيوط التواصل في أكثر من اتجاه.

ورغم الارتباك الحاصل في الإدارة الأميركية في أواخر أيامها، بسبب عمليات التسليم والتسلم بين إدارة ترامب والرئيس الجديد جو بايدن، غير أن وزارتي الدفاع والخارجية لم يتحولا إلى بطة عرجاء، وسعتا إلى تصحيح الأوضاع مع السودان.

تكرر فصول التعاون الروسي-التركي بالبحر الأحمر بعد سوريا وليبيا وأذربيجان له تداعيات على موازين القوى في المنطقة

ويجد الجسم العسكري في مجلس السيادة الانتقالي مساحة جيدة للحركة في القضايا الاستراتيجية لتعزيز نفوذه في قلب السلطة، وإيجاد شبكة مصالح متماسكة مع قوى كبرى ربما تمثل ضمانة لعدم تهميش دوره مستقبلا.

واكتسب الجيش المزيد من الجرأة في التعامل مع المعطيات الإقليمية، وراكم نقاطا إيجابية من وراء العجز الذي يعاني منه المجتمع المدني في السودان، ويسعى إلى تقديم نفسه على أنه الضامن الحقيقي لمصالح قوى كبرى في المنطقة.

مع أن الخطاب الأميركي المعلن يميل إلى مساندة المجتمع المدني، وأصدر الكونغرس مؤخرا قانون “التحول الديمقراطي” الذي يستهدف تقويض نفوذ الجيش السياسي والاقتصادي في السودان، إلا أن هذه الورقة يمكن تجميدها، طالما أن المؤسسة العسكرية لا تتخذ إجراءات تتصادم مع المصالح الحيوية الأميركية.

ويقول متابعون، إن السودان أحرز هدفا سياسيا من وراء الإعلان عن تنفيذ مكونات الاتفاق العسكري مع موسكو، وأجبر الولايات المتحدة على رفع اسمه من لائحة الإرهاب، والعودة إلى الحوار مع الجيش في القضايا العسكرية والأمنية المشتركة.

ويشير هؤلاء، إلى أن رئيس مجلس السيادة الفريق أول عبدالتفاح البرهان، لا يزال يقبض على ورقة التطبيع، التي يمكن أن تضاعف من وتيرة انخراطه في تعاون مع واشنطن، وتقلل من حظوظ موسكو، لكنه يريد العمل بالتوزاي مع أكثر من طرف كي يضمن أن يكون في قلب المعادلة المحلية والإقليمية.

العرب

التعليقات مغلقة.