البَحْرُ مَاتْ..دمْعةٌ ووردةٌ على قبْر النورس إدْريس عَوض الكريم ياسر عرمان ، مارس 2020

60

 

(1) في سنوات بيروت، لو أراد أدريس عوض الكريم أن يبيع بضاعته الفاخرة؛ لتأبط رئاسة جريدة لندنية ذات صيتٍ وألقْ، أو لأصبح نجماً أو مديراً لإحدى قنوات التلفزيون، ولكن إدريس عوض الكريم مثلهُ مثل ذاك النّهر الهائم والآف السودانيين شمالاً وجنوباً المالكين لأرفع القدرات في مجالاتهم ، والمسْكونين بالتّواضعِ والإعراضِ عن الحياةِ ، فهم لا يعرضون بُضاعتهم في الأسواق مهما كان الثّمن ، فسّر البعضُ ذلك بتأثير روحهم الصوفيّة المعذّبة ولكنّ هذه التفسيرُ وحده غير كافٍ ،لأن الجنوبيين يحملون نفْس الصّفات وهي ضاربة الجّذور في أعماق التّاريخ والصفات الموروثة ، ولكمْ تأمّلتُ وتوقّفتُ عند ترفّعِ إنسان عظيم واسع القدرات والحيل الأكاديمية مثل البروفسور عبدالله الطّيب وعزوفهِ عن عرض بضاعته للبترودولار ، حينما أصْبحَ الدين موضة وسلعة معروضة في ( فترينات العرض). فيمّم وجهه صوب بلدان الفقراء في نيجيريا والمغرب ، لم يبعْ ولم يتاجر بالدين ، فقد كان عبدالله الطيب ” الذي حوى كلّ أصْنافِ العلوم ولم يزلْ يسْعى حتى غاب” في الزّهدِ شيْخاً من شيوخ ِ المجاذيبْ وأُولئك أبائي فجئني بمثلهم ، وآخرين فضّلوا عرض فتاويهم المستأجرة لكل من طلب ودفع الايجار واكتفى عبدالله الطّيب بشرح الدّين للفُقراء وبلغتنا الدّارجة عبر مذياع امدرمان مع الشيخ صدّيق أحمد حمدون في برنامجه ” دراسات في القرآن الكريم ” ولطالما استمعتْ اليه أُمي ( فاطمة عالم ) وتعلّمت منه وهي لم تذهب إلى أي تعليمٍ نِظامي.

(2)في نهايات السّبعينيات، وغروب شمسها كنا نقرأ بنهمِ وشغف؛ أدبيات ودورات اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السّوداني الأنيقة لغة ومضموناً في ذلك الوقت! ولاغروْ في ذلك فقد عكف على كتابتها الكِبار من لدُنْ محمد ابراهيم نقد والتجاني الطيب بابكر، وفي إحدى تلك الدّوراتِ والتي صدرت عقب 19 يوليو 1971، تناولت ماقام به إدريس عوض الكريم من حشدِ للتضامن الدّولي مع الحزب وقضايا السودان في بيروت في فقرة موجزة أختزنتها في ذاكرتي.

(3)في عام 1995 وفي نهارِ بديعِ من نهارات مدينة أسمرا الإريترية ، وجدتُ نفْسي وجهاً لوجه أمام أدريس عوض الكريم ! في شارع الحرية ، وانخرطنا في حوارِ طويل أستغرق عُدة أيام بشكلٍ يومي، حول تجربته ومساهماته في ثورة أكتوبر 1964 حينما كان يدْرس في معْهد المعلمين العالي – كلية التربية جامعة الخرطوم ، مروراً بحل الحزبْ وبمايو 1969 وحدّثني عن عبدالخالق محجوب ورهْطه ، و19 يوليو والثورة الإريترية والقضية الفلسطينية وسنوات بيروت ودمشق وبغداد ، كان إدريس إنساناً جميلاً ومثقّفاً وذو ذادٍ وطني وتجربة ووعي يساريّ الهُويّة والهوى ، ومجيد للغتين العربية والانجليزية ، وموهوباً في حفظ والقاء الشّعر ، ومترجماً حفظ الكثير من الشعر القديم والحديث ، ويجعلك تعيد البصر والنظر كرّتين وأنت تقف على ابواب أبي الطيب المتنبي، ولا فكاك لك من محبة عبدالوهاب البياتي أذا استمعت لإدريس عوض الكريم وهو يتلو قصائدهِ وعذاباته في المنافي وحبه للعراق ، وخاصة قصيدته ( الى ولدي علي) ، ولاشك إنك ستُهيم بعشق البياتي والعراق وقد استمرت لقاءاتنا لعدة سنوات .

(4)في 3 مارس 2020 قرأتُ مقالاً؛ يُفيض بالوفاءِ والإنْصاف والحزن النّبيل في رثاءِ الاستاذ ادريس عوض الكريم ،وجمائله وجماله كتبه الاستاذ (عمر جعفر السّوري) ، هذه المقالة النضيدة لهي ما يستحقها ادريس عوض الكريم، لتعريف الأجيال الجديدة به ، فلإدريس عوض الكريم سهمٌ وبذرة في ثورة ديسمبر والخير خير وإن طال الزّمانُ به .

(5)بالدويم ، وفي زمانِ ما – ولد إدريس عوض الكريم وفي يوم الجمعة 28 فبراير 2020 رحل إدريس عوض الكريم ، آخذاً معه كرّاساتهِ وأحلامه بعد أن طاف بها بيروت ودمشق وبغداد وأسمرا ، ثمّ حطّ رحاله مرة أخرى في بلاده السّودان ليستريح من جديد ، فمنها كانت البداية وإليها عاد خلسة عند النهايات وهكذا النوارس دوما تعود.

(6)في أسْمرا ، ولعدة سنوات التقيت بإدريس عوض الكريم ومع أصدقاء وأدباء وفنانين ومثقفين مميزين، تضم القائمة أناساً كثر على رأسهم ( الشاعر الكبير السوداني الإريتري محمد عثمان كجراي وأستاذ المبدعين محمد وردي الذي غنى لكجراي ” مافي داعي “) وكنت كلّما التقيت في مجلسٍ بمحمد وردي وبدأ الغناء إلا والتفت اإيّ قائلاً ” طبعاً أنت حتقول لي غنيّ ليّ مافي داعي ” ولقد أخذها من كجراي في مدينة واو في صيف العام 1962 { مافي داعي تقولي مافي يا الربيع في عطرو دافي ..لهفة الشوق في سلامك في كلامك وسر غرامك ماهو خاف} في أسمرا التقيت إدريس عوض الكريم في مناسباتٍ مختلفة ضمت المناضل الكبير والكاتب محمد سعيد ناود، وزعيمنا د. جون قرنق ود. فرح حسن آدم ود. شريف الدشوني ود. عمر نورالدائم، والثلاثة من أنحاء مسقط رأس ادريس عوض الكريم، وكذلك محمد مدني وعبدالحكيم محمود الشيخ وعبدالعزيز خالد وفتحي الضو وصلاح الأمين وعبدالله جابر وفيصل مسلمي وعادل القصاص وآمال علي وخالد طه وآخرين كثر ،إن رثاء الاصدقاء والآخرين مؤلمٌ لكننا بذلك نحاول أ نستعيدهم بانسانيتهم مرة أخرى الى الحياة.

(خاتمة)

رحل الأستاذ إدريس عوض الكريم الذي أيّد الثّورة الإريترية ، وعمل في صفوفها والمقاومة الفلسطينية دون فاتورة حساب عاجلٍ أو آجل ، ولم ينقطع من قضايا شعْبهِ ، وخرج مثلما جاء لا يمتلكُ إلا محبة شعبه ، كان صاحب قدراتٍ وإمكانيات ، لم تجد ما تستحقه من مكانة، وفي عالمه الجديد ؛ له محبّتنا ولقد سعدتُ بلقائه والتّعرف على بحر إنسانيته في رحلتنا القصيرة جميعاً .والعزاءُ لأسرته واصدقائه وعارفي فضْلهِ ، وأقول له ماكنت سأطلبه منه إذا ما التقيته أن يتلو على مسامعي قصيدة البياتي ( إلى ولدي علي) ولقد رحل البياتي منذ سنوات وترك عشقه وحبه للعراق العظيم الذي يعاني مثلما تعاني بلادنا ، ولايزال شعر البياتي ملهماً مثْلما كان ، وإلى أدريس عوض الكريم مطلع قصيدة البياتي المليئة بالحزن والامل { قمري الحزينْ البحر مات وغيّبت أمواجُهُ السوداء قلع السندبادْ ولم يعد أبناؤه يتصايحون مع النوارس والصدى المبحوح عاد والأفق كَفَّنَهُ الرمادْ فَلِمَنْ تغنّي الساحراتْ ؟والعشب فوق جبينه يطفو وتطفو دنيوات كانت لنا فيها ، إذا غنى المغنّي ، ذكريات }

التعليقات مغلقة.