حكيم شمية يكتب.. ياسودان معليش

45

……
أتعرفين ما هو الوطن يا صفية ؟ الوطن هو ألا يحدث ذلك كله.
*غسان كنفاني (مخاطبا زوجته في رواية عائد الى حيفا)
…..
بعد ان قضي دراويش المهدية علي الاخضر واليابس، واشعلوا البلاد بطولها وعرضها، و حلت المجاعة الشهيرة(سنة ستة) 1890 بالنوبية يسمونها ميچي، مات اغلب السكان جوعا او بسبب الحرب والسلب والنهب، فمثلا في شمال السودان نزح اغلب السكان من المناطق النوبية الي مصر او هجروا قراهم وسكنوا الكهوف والجبال مثل الانسان الاول، خوفا من هجمات قوات التعايشي التي روعت الآمنين وشرعت تنهب وتسرق وتقتل وتغتصب، الغريب في الامر ان عبدالله ود سعد هو اول من قادة تجريدة عسكرية لملاحقة حملة إنقاذ غردون و نكّل بالمواطنين الآمنين لعدم مناصرتهم للمهدية قبل ان تدور عليه الدوائر وتحدث كتلة المتمة الجرح الذي لم يلتئم حتي الآن رغم مرور السنوات وإن ادعينا غير ذلك.
بعد هزيمة قوات النجومي في توشكي، عاد السكان بتوجس لإعمار سواقيهم و تخضير جروفهم، ولكنهم لا يملكون حتي التيراب ، والمزارع النوبي معروف عنه حرصه علي توفير تقاوي كل المحاصيل وتشوينها في قساسيب معدة لحفظها من خطر التسوس والرطوبة.
جد والدي كان شيخا هرما( حسب ما توارد توفي عام 1911) طلب من ابنه الكبير ان يذهب الي احد اقربائه في مشكيلة لانه حسب ما تناقلته الالسن يحتفظ بمخزون من تقاوي غلة قُروُ( كان يستخدم في صناعة الخبز عوضا عن القمح)، قطع جدي لوالدي الفيافي بحذر إتقاء هجمات فلول الدراويش حتي حل عند قريب والده في مشكيلة ونقل له الرسالة.
طبعا هذا الشخص بمثابة البنك الزراعي اليوم، الا انه يمول دون انتظار سداد بفائدة او بدونها، وما اكثر من يطرقون بابه نظير حفنة من التيراب في تلك الفترة الكالحة.
رحب به الشخص العجوز وسأله عن احوال اهله في جنوب المحس، فطوال سنوات التيه انقطعت صلات الناس وانعدم التواصل تماما، وبعد اكرام وفادته وحق الله بق الله، ذهب به الي قلعة شبه مهدمة وتجاوزوا دهاليزها بصعوبة حتي وصلوا الي ركن آمن يحتفظ فيه بعدد من القساسيب، ازال عن احداها فتحتها السفلي بعد ان ازاح عنها المادة الطينية الجافة المركبة من ذات المواد التي تصنع منها القسيبة(طمي النيل=كوركوتي/ تبن المحاصيل الزراعية=هسد/ بالاضافة لمخلفات حيوانات الحقل بعد تعطينها لعدة ايام) مستخدما المنجل، اخرج حفنة من التيراب واحكم صرتها في قطعة قماش، وقال له: سلم علي ود عمي رمرم وقول ليهو أدول بيقول ليك: ارمي في الحفرة حبة ونص.
حكي جدي بعد ذلك كيف انه كان محتارا طوال طريق عودته عن كيفية بذر نصف حبة من التيراب، وهل يصلح التيراب المكسور للإنبات، عندما عاد ابلغ والده ما قاله قريبهم في صيغة استغراب، فرد عليه: هو قصده انه اوزع التلات حبات في حفرتين، حفرة فيها حبة والتانية فيها حبتين. عادة تُرمي اكثر من ثلاث حبات في الحفرة الواحدة.
كان الزمان مسغبة كما يقال هذه الايام، بعد انسحاب الدراويش جنوبا تحت وطأة مدافع الجيش الغازي، هرع الشباب للعمل ضمن حملة كتشنر، حملوا ادوات الزراعة من محاريث و وواسيق وطواري بعد ان نفضوا عنها الغبار، واستعان الغزاة بخبراتهم لتنفيذ ردمية خط السكك الحديدية من حلفا حتي كرمة(لا تزال بقايا الردمية ماثلة للعيان) كما استعانوا بالنوتية من ابناء المنطقة في تسيير البواخر واجتياز الشلالات والجنادل.
خرجت القري بدفوفها ومداحيها وفنانيها نساءا ورجالا شيبا وشبابا يرحبوا بجحافل وسفن اللورد كتشنر، نعم كانوا ينشدون الآمان من المستعمر بعد ان أحال ابناء جلدتهم الوطن الي جحيم لا يطاق، في كثير من الاحيان يصبح الامان اغلي أماني الغبش، هو الوطن شنو غير امنك في سربك ومالك في المقام الاول وهي الاساسيات للسلام والحرية والعدالة.
علي الضفاف كانوا يغنون ويرمون البواخر بجريد النخل وسبايط القنديلة وابتمودة.
عادت لهم الحياة في ظل المستعمر الاجنبي، واخضرت جروفهم، ودارت السواقي بعد اعمارها وإزالة دابة الارضة عن اخشابها، واُخرجت جرار الساوي من الخوابي و انتظمت جلسات فِيتي الدكاي،و دوزنت اوتار الطنابير لتعود مواسم الافراح وحصاد البلح والكلقية، بعد الاستقلال بحوالي ثلاثة اعوام وافقت حكومة السودان علي اغراق مناطقهم، في اكبر كارثة حلت بهم منذ طوفان نوح، لذلك حتي سنوات قليلة كان احد ابناء حلفا، يقف في طرقات الخرطوم يهاجم الحكومات السودانية العسكرية منها والمدنية ويمجد الاستعمار ويذكر محاسنه( بحسابات بسيطة ما هي مساوئ الاستعمار التي لم يرتكبها جنود الوطن؟)، علي كل حال كانوا يصفونه بانه مصاب بلوثة عقلية، رغم قوة حجته، وفي فريق الثانوية قابلت احد المعمرين في القرية(كان يبلغ من العمر 120عاما حسب زعمه) يتحدث بكل الخير عن الانقليز ويقول ان كوتشونير(هكذا كان ينشر اسمه) جاء لانقاذ السودان من الدمار
الايام تعود وتتكرر الكارثة وقع الحافر في الحافر، كوارثنا دائما صناعة محلية، يدفع ثمنها الابرياء، ها هي الخرطوم تدمر للمرة الثالثة بعد خراب سوبا ثم هدمها بواسطة المهدية بعد اغتيال غردون، والآن احالها الجيش والجنجويد الي اثر بعد عين، وهرب الجميع جماعات وجماعات، يطلبون الآمان.
الموسم الزراعي علي الابواب والدولة منهارة وشبح المجاعة كما الجنجويد وجيش البرهان يبرز انيابه للجميع، والكل في انتظار المجتمع الدولي لإطعامهم وتجهيز المعسكرات وحمايتهم من تغول من دُربوا لحمايتهم في الاساس، ومن لا يملك قُوته ولا يملك امنه، لا يملك قراره.
– النوبيين عمرهم ما وقفوا في مواجهة الغزاة الا جيوش المسلمين.
كانت مسبة تلازم النوبيين، انهم لم يقاوموا الحملات الاستعمارية، الامر ببساطة المقاومة تعني دفع الخطر، عندما اتت الجيوش بعتادها كان الخطر ماثلا من الذين يتقاسمون معنا الوطن، حتي المهدي دمنا ولحمنا غير جلده وإدعي انه من الاشراف وجيّش الجيوش التي نكلت بعد ذلك ببني جلدته واسموهم باولاد الريف.
يقيني ان عهد بوارج كتشنر قد ولي، الا انني اخشي من ان التعاطي مع واقع الدولة السودانية سيفرز نمطا آخر للتفكير طلبا للامن والإستقرار.
تفكير بسيط، لماذا الاصرار علي شراكة فاشلة؟ ما هو المشروع الوطني المشترك بين الامم التي تسكن في الدولة السودانية؟
التاريخ/الدين/المصير/مشاريع التنمية؟ الكل يشتكي من الظلم والتهميش من الآخر فعلام المضي في طريق لا يقبل فيه احدنا رفيقه؟
من وجهة نظري ان القاسم المشترك الوحيد بيننت كسوادنة، هو السكن في الخرطوم، تحت شعار(الخرطوم حقت ابو منو؟ ومنو العندو شهادة بحث للخرطوم باسمو، حتي ظهر المك عجيب سيد الخراطيم😄) وحتي داخل الخراطيم لا جامع مشترك بين ساكنيها: واحدين بالايجار ما لاقين جحر، وناسا حالا زين مصنع مصنعين، لكل منهم خرطومه الخاص ولا تجمعهم حتي الصلاة في المساجد.
عموما الخرطوم في دواخلها تشكو مر الشكوي من ما لحق بها، وتكاد تشد شعرها وتصرخ: يا ناس سيبوني ما عاوزة ابقي عاصمة، شوفوا ليكم حتة غيري، طلقوني.
حتي نهر النيل لم يجمعنا ويوحد بين مكونات السودان، بل صار عامل من عوامل الفرقة والتمزيق، ومدعاة للتنمر.
عموما التالتة تابتة، والخرطوم طلقانة بالتلاتة بعد خراب سوبا ثم تدميرها بواسطة قوات المهدي للمرة الثانية، وأُعيد اعمارها بعد استعمار الحكم الثنائي حتي حلت كارثة 15 ابريل.
عودوا الي مضاربكم، وخرطموا مناطقكم، في دنقلا والفاشر والجنينة ومدني والدمازين وبورتسودان( عشان ناس الشرق ما يزعلوا، ويطردوا فولكر بطريقتهم😄😄)…الخ، عندها ربما يعاودنا الحنين لسودان واحد وفق اسس مشتركة نتناسي تحت اشجاره(بعدما حميدتي يطلع منها) مرارات الماضي ونتجول في ربوعه دون خوف من ارتكاز جياشة او قنص دعامة او نهب مسلح.
الملخص: فشلنا في التعايش السلمي واتخمتنا الاناشيد و دغدغة المشاعر بشعارات لا نري لها اي ظل علي ارض الواقع، لنستفيق علي اننا جميعا ضحايا هذا السودان، فدعونا نجرب التسريح باحسان، علي وعد اللقاء عندما يندمل الجرح ونستفيق من كوابيسنا، لنتوحد حول مشروع للحياة لا نتحدي فيه الموت عند المحن، بل نتداعي لتذليل المحن بالتفكير والتخطيط دون دواس او كوماج، ونصير مترفين واصحاء بحب الوطن بدلا ان نكون مرضي بحبه.
بس الآن
#اوقفوا_الحرب
صورة بيت الملك في دنقلا العجوز ، او ما يقال انها (الكنيسة) التي تحولت الى جامع ..

التعليقات مغلقة.