أسرار الحقيبة .. لماذا دُفن الحاج محمد أحمد سرور في أسمرا؟

238

الواحة_ عزمي عبد الرازق
اثار مقطع لأحد الفنانين، وهو يغني بالرق جوار قبر فنان الحقيبة الشهير، الحاج محمد أحمد سرور، ردود أفعال واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما بين مستنكر ومستغرب، وذهب كثير من الناس إلى أن ذلك الفعل يعد انتهاكاً لحرمة الموتى وقدسية المقابر.وظهر ذلك الشخص وهو يغني واحدة من أشهر أغاني سرور، من كلمات الشاعر صالح عبد السيد” الفروع تتمايل ميلة الفرحان، والزهور بتصفق ويرقص الريحان”.

وبالعودة إلى تفاصيل القصة، فقد قضينا أكثر من يوم ونحن نبحث عن قبر عميد فن الغناء السوداني الحاج محمد أحمد سرور، في مدينة أسمرا التي عاش فيها آخر أيامه منذ أكثر من نصف قرن، عندما غادر السودان الذي عشقه حزيناً حتى انتقل إلى رحمة مولاه في منتصف 1946م بمدينة (حرقيقو) بإريتريا بعد عملية زائدة، وحمل جثمانه إلى أسمرا التي دفن بها.

وقد أوحى لنا أحدهم في بادئ الأمر أن (سرور) مدفون في مقبرة (بيت قرقيس) المسيحية التي هي على بعد نصف ساعة من المدينة، وقد كان لازماً علينا أن نقرأ كل شواهد القبور لنتأكد من صحة الرواية، وقد عثرنا بالفعل على بعض الجنود السودانيين الذين حاربوا مع المستعمر ضمن قوة دفاع السودان ولكن سرور لم يكن من بينهم، ومن ثم مضت بنا سيارة الأجرة إلى مقبرة شيخ الأمين بحي جدة الشهير.. (المقبرة) على ارتفاع أميال، تفحص الحارس الصومالي وجوهنا وأدرك أننا من السودان فقال، هل تبحثون عن قبر سرور؟ ونبرع بالإجابة: هو بالفعل موجود هنا ويزوره الناس باستمرار.
اقتربت من القبر المنسي وسط الحشائش، الذي رصف بالرخام ووضع عليه شاهد نقشت فيه أبيات من الشعر لم أتبيَّنها جيِّداً، ولكن مطلعها يقول “سبحت أول ما صدحت مغرداً، باسم الديار وكنت أروع من شدا ” وهي للشاعر محمد عبد القادر كرف، وفي أعلى البيت تحية من (موازيك للثقافة والفنون)، تقريباً هى مجموعة إريترية مهتمة بالتوثيق للتراث في ما يبدو.

أطلت النظر وطفرت مني دمعة كادت تبلل ثيابي. قلت لمرافقي الذي يتحدث العربية بيسر في هذا المكان يرقد مفجِّر ثورة الغناء السوداني لو تصدِّق، الرجل الذي صدح منذ إطلالة القرن العشرين بأروع الألحان (أنَّة المجروح، قائد الأسطول، اطرد الأحلام يا جميل وأصحى وغيرها من الدرر).
الحارس الصومالي أشار إلى أن السلطات سوف تجمع كل هذه القبور في مكان واحد فقد مر عليها زمن طويل، وقبر سرور بالطبع سوف ينبش في إطار الخطة الإسكانية لتوسعة المدينة، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.
من العسير جداً أن تعثر على شخص في أسمرا شهد الأيام الأخيرة في حياة سرور ولكن الرواية الأكثر تداولاً هنا تشير إلى أنه أقام آخر حفل له (بمصوع) وقد كان مهرجاناً تقاطر إليه العشاق من كل أنحاء البلاد، وقد شهد له جيرانه بأسمرا أنه اشتهر بدماثة خلقه ورقة طباعة وكان يعطف على المساكين، ويكرم الصغار ويتذكر بلاده بفخر. يقول أحد الذين عرفوه في آخر أيامه ويسمى شيخ محمد: “يا سلام على سرور فقد كان رجلاً عظيماً، وبعد أن قرر اعتزال الغناء انقطع للعبادة والذكر والصلاة وأصبح يتردد على المسجد في كل الأوقات، وقد عاش بقية أيامه بمنزل (حسن كيكيا) ولا تزال غرفته مغلقة بكل ما تضج به من ذكريات وأسطوانات وصوت عذب غنى للحياة وانتهى بترتيل القرءان.

مما عرف به سرور، الأناقة في الظهور، وقد فتنت به الطبقى الأوسطى، وكثير من نجوم السياسة والمجتمع، حيث كان يطرب له، عبد الرحمن المهدي والملك عبد العزيز والإمبراطور هيلاسي لاسي والملك فؤاد وتنقّل بين مصر وإريتريا والسعودية وعمل سائقاً للملك فيصل لمدة 3 سنوات، ومنها حظي على لقب الحاج محمد أحمد سرور، بعد أن أدى فريضة الحج.

كثير من السودانيين الذين يسافرون إلى أسمرا، يزورون قبر سرور، ويطلون على الأحياء والشوارع، التي أنفق فيها آخر سنواته، ولعل ” الخضرة والماء والوجه الحسن” هى مما جعل عميد فن الغناء السوداني يشد الرحيل، إلى هنا، فطيب له المقام، لكنه، وللمفارقة، توقف عن الشدو، وانقطع للعبادة، وحفظته المنهيات عن الملهمات، لتعيد ذكراه الأيام، مع اجترار ألحانه الفريدة، وحكايات العابرة للحدود.

التعليقات مغلقة.