عبد الحفيظ عبد الله عبد الحفيظ محمد علي يكتب.. وقالت اللَّـوحَةُ

338

وجاءَ في سِفرِ القريةِ العتيق مكتوب على الصفحةِ الأولى بلهجةِ بِلادِ النوبةِ أن :
( سعاد بنت نفيسة بنت يو (1 ) زينب بنت يو فاطمة بنت الحاجّة زوجةُ الرجلِ الصالح القادم من بلادِ العرب ، صاحبُ المَسيدِ الكبير المُقام على ضفّةِ النيل، هي وحدها مَن منحت أهلَ القريةِ وسُكّانَ الأرضِ والعالمين تميمةَ النصرِ وأهدَتهم شِعرَ الخلاص ) .
أتوسلُكَ لا تكُن كما الآخرين_ أنتَ أيضاً_ وتتهِمُنا معشرَ اللوحاتِ بالسكونِ والجمود ، لأن الحقيقةَ غير ذلك فاللوحاتُ تتحركُ وتتنفس بل وتدورُ كما تفعلُها الأرضُ من تحتِك تماماً، فانخطافكَ وتسمّرُكَ أمامَ لوحةٍ بعينها لا علاقةَ له بجودةِ الورق أو تناسقِ الألوان ولكن الفكرة تتجلّى في قُدرةِ الرَسّامِ وأحترافيتِهِ في خَلقِ مَدارٍ يَتسِعُ لك ولِعناصرِ لوحتَه حتى تَصبِحا جزءاً من منظومةِ الأرضِ فتَطوفان مِنْ حَولِها كَما تدورُ هي حَول الشمسِ ، وأظنُكَ لا تنكْر حقيقةَ دورانِ الأرض أيضاً، برغم أنكَ لا تشعر بها ولكنك ما أن تقودَ مركبةً فضائيةً وتهبِطَ على المريخِ سترى الأمرَ وتتيقنَه وتخبرَ غيرَك به عند عَودتِك ، وكذا أمرُكَ أنتَ معنا ما عليك الا أن تَشدُد أحزمة حسِّكَ وسمعِكَ وبصرِك جيداً وتحلّق عالياً بين فضاءاتِ رُوحك عندها ستُدرِكَ حقيقةَ حيواتِنا بأمِ عينيكَ وأُذنيك .
الأمرُ بِرُمَتِه هُناك في القريةِ كان لا يتعدّى سوى لوحة تتحرك، وبالطبعِ ليس ذلك انتهاكاً لقوانين الرسم أو تعدّياً على سيادةِ الإطار، ولكنه حتماً هو قدرة الرسّام البديع _ الله _ على خلقِ ذلك المدار الذي يتسع لكل مَن يَمر بهذه الجدارية، أضف إلى ذلك نشاطُ القريةِ ومَنْ فيها كان كافياً ليجعلني أضجُ بالحياةِ ويمنحُ الألوانَ القُدرةَ على كسرِ أبدية الجِمودِ ، فصياحُ الدَّيكِ عند خيطِ الفجرِ الأول ، وثرثراتُ النسوةِ مع بعضِهْنَّ في الصباحِ الباكر ، ودُعاباتِ وضحكاتِ ود زياده الجزّار التى لا تتوقَفْ ولا تنتهي ، وصوتُ صافرةِ قطارِ البضائعِ القادم من المدينة ، وتدفّق مياه النيل بديمومة مثيرة نحو الشمال ، ورحلاتُ الشمسِ اليومية التي لم يعرف الكسلُ طريقه إليها شروقاً ومغيباً، وألحان سنبلاتِ القمح عندما تتهاوى سيقانها مع الريح ، وصلوات أشجار النخيل الصامدةِ بالرغم من جورِ الزمنِ عليها، وأجتماعاتُ أهلِ القرية حول نِيران حكايات المساء المفتونين بها ، وعُصاميةَ بنتِ نعَشَ المُتأخرةَ _في كَبِد السماء –عن إخواتها فلا هُنَّ قد تعبنَّ من المسير فتوقفنَّ وأنتظرنَّها ولا هي خارت عزيمتها في السعي للحاقِ بِهنَّ ، ولا يدري أحدٌ متى ستنتهي مراسمَ جنازتهنَّ المحمولة على العَنْقَريب في منتصفِ السماء ، ذلك الجوُّ المترّعُ بالجمالِ الربّاني وهذه البيئةُ الرسوميةُ الصاخبةُ كانت كافية لأن تجعل قَدَرُ كُل أهلَ القرية مبدعين بالفطرةِ ، وتنجبُ منهم خبراءَ بالألوان وتدرجاتِها برغم الجهلِ المزعوم والمُفترى عليهم ، حتى كادت جميع حيواتهم ترتبط وتتعلق بالفن والتصوير، فكانوا يرسمون كُلَّ شيءٍ أحلامهم البسيطةِ ومحبتهم الصادقةِ ، حتى القَدَر الذي جاء إليهم بالخبيثِ بقِطعٍ من الليل ، ذلكم الداءُ كما المُستعمِر أحتلّ دُورِهم وأقام فيها ، تخلّلَ وتغلغلَ بين خلايا أجسادِهم فأصابها بالجنون ، تمدّد بينهم بِلا حَياء ، وأستشرى الموتُ بينهم بشكلٍ مُخيف ، أمست أرواحهم تتساقط وتفيضَ الي ربها بالعشراتِ كل يومٍ وليلة ، كما الهشيم أحرق الصغير منهم والكبير ، فهجَر الرِجالُ حقولَهم حتى أصفرّت وذبُلت ، كَما أصفرّت أرحامُ زوجاتهم أيضاً ، فأي فِلاحةٍ تلك وأي مُعاشرةٍ تجوز بين هذا التوّجس والحطام ، الكلُ وصّد باب داره بما ثَقُل من الأقفالِ ، فالسرطانُ أمسى يباغتهم عبر أوهَنِ الأوجاع التي لم يتوقعوا مراودته لهم من خِلالها ، عبر صداعٍ كان أو حُمّى عابرة ، وحتى الحكيم غلّق شفخانته (2) وأعلن قِلّة حِيلتِه ، وتبدّلت وظيفته إلى تحويل المُصاب إلى مشفى المدينة ومن ثم يدِّسُ همساً لأهلِه خبرَ بدء موته التدريجي الواقعِ لا محالة، فلم يسافرْ أحدٌ ليتعافى منه وعاد ظافراً ، قاطعَ الجميعُ القريةَ وأُضرِبَ حظراً إجبارياً عليها ، فلا وافدٍ يدخُل إليها ،ولا طالب للنجاةِ يخرج منها ، الجميعُ بِمقدِم هذا اللعين أمسى شاحباً لخوفه أن يصيبه أو يباغته الداءُ ساعة عملٍ أو أمل ، إلاّ سعاد وحدُها من كانت تتماسكُ بابتسامتها وسطِ هذا الإنهيار ، وما زالت فرشاةُ لونِها تَراودُ الرسمَ والحياةَ ، تدخلُ في الصباحاتِ الي البِيوتِ الخائفة وبكلماتها الممتلئة إيماناً وحِكمة تَهدّي روعَ الجميعِ قائلةٌ “إن الموتَ نقاتله بإستعدادنا له لا بخوفنا منه” ، ثم تَجمعُ الأطفالَ حولِها وتأخذهم الي المَزارِع فتَعلِّمهم الفِلاحةَ وتشرِّبُهم الأمل ، قالتها مِراراً لهم : “الأملُ فيكمُ لن يموت إلاّ أن أموت” ، ،ولمّا سرقَ الخبيثُ منها زوجها وترك لها ثمانٍ من البنات القُصَّر ،خاف أهلُ القريةِ كبارهم قبل أطفالهم أن تُخمَدَ أبتسامتها فتَغرَقُ لوحتهم في السواد ، ولكنها فاجأتُهم بمُصَابرتِها ومُبَاصرتِها في أن تظل إبتسامتها أكثر إشراقاً، فالأمرُ أمانة تقلّدتها وورثتَها عن الرجلِ الصالحِ نقلاً عن أمهاتها الأربعةُ “بأن المصابرةَ مسبحةُ الحياةِ والمباصرةَ تميمةُ الظفرِ فما أنفرَطَ قِرطُ إحداهما إلاّ وغرِقت أرواحُكم في المواجِع ” ويوماً تلو يومٍ كانت سعاد تترقّى في حِفظِها للأمانة وتعتلي الدرجاتَ فيها ، فعلى الرغم من فجيعةِ التَرَمُّلِ وضَنكُ الحياةِ ما عُرِفِ عنها يوماً شَكَتْ ضِيقَ الحياةِ أو تَبرّمت منه، بل كانت تحتفي بقَدرِها وترضى به ، و كل المتابعين عن قُربٍ رأوا كيف جاهدت في بناتها القُصّر تعليماً وتربيةً إلي أن أبلَغتَهُم مَبلغَ الزواجِ والوصولَ لِبرِ الأمان ، ولمّا فاجأهُا الدوارُ ذاتِ يومٍ في رأسِها والوجعُ في بطنِها لم تشعرْ بشئ بعدها إلأ عندما وجدت جسدها يتمددُ علي سريرِ الموت في مشفى المدينة ، ذات السرير الذي فاضت منه روح زوجها وأرواحُ أُمهاتها من قبل ، وبصعوبةٍ بالغةٍ فتّحَت عينيها الفاترتين فإذا ببناتها الثمانٍ يطوِّقنَّ سريرَها الأبيض ، والوجومُ سيّدُ اللحظةِ فلا حِراك لأحدٍ إلاّ خريرَ الدموعِ في المشفى والتوجّس هناك في القرية بإنتظارِ خبرِ فَجيعةِ رَحيلِها ، وحدها سعادُ ما تزالُ تَجاهدُ أبتسامتها برغمِ الوجع على أملِ أن تبقى ولا تفارق ثَغرِها لآخِر ثوانٍ من عُمرِها .
المَشَاهِدُ عند القرية تنقلِبُ اللحظةَ رأساً على عَقِبٍ ،الحقولُ تتفتّحُ أكثر وتخضّر ، العصافيرُ تحتشدُ فوق سماوات القرية ، ورزازُ المطرِ يتساقطُ بعد طولِ إنتظارٍ له ، الغيومُ تُغطي قُرصَ الشمسِ ،ومعزوفةُ موسيقية من بعيد تخترقُ السِكُونَ وتقطعُ وجُومَ الجميع ، الأطفالُ يُحلقّون رؤوسهم صوبَ السماء، المقطوعةُ تبدو أكثر إقتراباً ، لا أحدَ يتبينُ مصدرها ،ولكنها تخترقُ أغشيةَ آذانَهم من كل صوبٍ، تتوحّدُ البيئةُ بأكملها وتذوب بين ثنايا المقطوعة ،الأطفالُ والعصافيرُ والشجرُ سرعان ما انصهروا فيها ككورالٍ لفرقةٍ موسيقيةٍ متمازجة مُرددين مع مصدرِ المقطوعةِ بصوتٍ خافت ولَحْنٍ خلّاب بلهجةِ بلادِ النوبة :
أفيلقوو (3) أفيلقوو يو سُعاد
ليتَغمّد رُوحَكِ رَبُ العِباد
العصافيرُ تعزفُ لحنَ الشقشقةِ والمطرُ يضرِبُ على دفوف أوراقِ الشجر
ويرددُ الأطفال :
أفيلقوو أفيلقوو يو سُعاد
يو تنزّل المطرُ وتطهّرت من الخوفِ الأجساد
يو بالصبرِ والمباصرة سنُعمّرُ البلادِ

والحمائمُ تتراقصُ كما الحسناواتِ على نغم الأطفال ،وتتواصل الأبتهالات
أمبوور(4) أمبوور يو سُعاد عندَك حيث السماء
أمبوور أمبوور أجزِها عنّا خيرَ الجزاء
والأرضُ إرتوت من ماءِ المطرِ والألحانُ ما زالت تتواصلُ
نمتن نحن الأطفالُ والعصافيرُ والشجر
إذ علمتِنا يو سعادُ من أوجاعِنا نتحرر
أفيلقوو أفيلقوو يو سُعاد
وروحُ سعاد بإبتسامتِها كانت مايسترو الأوركسترا في المشفى ، ورُويداً رُويداً ينخفضُ الصوت ويبدو بعيداً ،متجهٌ صوبَ السُحُبِ ،والجميعُ هناك حتى الرجال مُحدِّقون رؤوسهم نحو السماء، الصوتُ ينقطعُ فجأة إلاّ عن الأطفالَ، هم وحدهم مَن يسمعُ الآن الصوتَ مِن فوقِ السماوات ،المشهدُ حتماً أشبَهُ بالتسليمِ والتسلّمِ لفرقتين موسيقيتين متناغمتين بامتياز ،الأولى هنا في الأرضِ والأخرى هناك فوق السماء ،الأطفالُ يَستمتِعون بترنيماتِ الملائكة وترحيباتهم بروح سعاد
مرحباً يا مرحباً بأصحابِ الميمنةِ
هيا الي الرَوْحِ والرَيَحانِ والطَلَحِ النَضِيد
مرحباً يا مرحباً بعِبادناِ البرَره
مرحباً فيهمو بين السَلسَبيل والكافورِ
وعوالمَ السُندُسِ والإستَبرقِ والشُرَبِ الطَهُور
المعزوفاتُ لم تنقطع بَعدْ والأطفالُ يسمعون كل شئ، كل التفاصيل الدقيقة التي لن تتوقعها أنت المتسّمرُ أماميَ هُنا ، فحتى حثيثَ خُطواتِ سعاد هناك حيثُ السماءِ كانت تبدو لهم بائنه وكأنها بينهم هنا في الأرضِ .
ولمّا كان يتوجب على كُلِّ من حَضِر ليلةَ الرحيلِ والنصرِ على المخاوفِ وعودة نزول المطر في القريةِ أن يكتبَ ويدوّن ما رأته الأعيُن والتقطته الأذُنُ يومها ،حِفظاً للتاريخِ والأجيالِ القادمةِ ،بين صَفحات سِفر القريةِ العتيق ، كان أبرَزُ ما كُتِبَ فيه وأتفقَ الأطفالُ جميعُهم عليه، بأنهم سمعوا صوتَ سعاد يتخللُ إبتهالاتهم وهي تقولُ : ” ستَتَحررُ أجسادكُم من أوجاعِها إن وثَقتُم في عدلِ وتَصاريفِ رب أرواحكُم “.
أنا كلوحة متفهمةٌ لتكوينك الغريزي كأي إنسانٍ مهووس بكل ما هو مُثير، ومُدرِكةٌ أنّ روحكَ تودُّ لو تُمدِد يدَها خِلسَةً لتمُسِك بكتابِ القرية وتلتهمُ كل ما دوّنه الأطفالُ دُفعة واحده وإن تطلّب الأمرُ منك تهشيّمَ الزجاجَ المُتواريةٌ أنا من خلفِه ، لكن يؤسفني أن أخبرُكَ بأن الجميعَ قد أنصرف مِن هنا منذُ ساعة ولم يتبقْ إلا أنت ومسؤولة الحفل الأنيقة التي كافأتَكَ من ذوقها بأربعين دقيقة أضافية من الزمن، وبالرغم من ذلك ها أنت مشدوهٌ مُتسمِرٌ قُبالتي وغير مدركٍ ومُبَالٍ لسيدةِ الحفل الواقفة من خَلفِك مُنذ لحظاتٍ تَستسمحُكَ أن تحِجَّ لزيارتنا غداً فما يزال المُتبقي يومانٍ وليلة لنهايةِ المَعرض ، ولتَكُن روحَك مطمئنةٌ ياسيدي فلديها متسعٌ لِتعاودَ التحليقُ والتطوافُ عند الغدِ بين عوالمُ مَعرَضِ الحَفل وجدارياتِة الأُخريات .
تمَّت
1/ يو : نِداء للأم بلهجةِ بلادِ النوبة .
2/ الشفخانة : كلمة تركية من أصلٍ فارسي وتعني دار الشفاء أو المستشفى .
3/ أفيلقو : تعني وداعاً أو مع السلامة بلهجة بلادِ النوبة .
4/ أمبوور : تعني الله بلهجة بلاد النوبة

التعليقات مغلقة.